وهو الكتاب الثاني من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله أهل الحمد والثناء المتفرد برداء الكبرياء : المتوحد بصفات المجد والعلاء المؤيد صفوة الأولياء بقوة الصبر على السراء والضراء والشكر على البلاء والنعماء : والصلاة على محمد سيد الأنبياء وعلى أصحابه سادة الأصفياء ، وعلى آله قادة البررة الأتقياء ، صلاة محروسة بالدوام عن الفناء ومصونة بالتعاقب : عن التصرم والانقضاء .
أما بعد فإن الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر ، كما وردت به الآثار ، وشهدت له الأخبار وهما أيضا وصفان من أوصاف الله تعالى ، واسمان من أسمائه الحسنى إذ سمى نفسه صبورا وشكورا فالجهل بحقيقة الصبر والشكر جهل بكلا شطري الإيمان ثم هو غفلة عن وصفين من أوصاف الرحمن ولا سبيل إلى الوصول إلى القرب من الله تعالى إلا بالإيمان وكيف يتصور سلوك سبيل الإيمان دون معرفة ما به الإيمان ومن به الإيمان والتقاعد عن معرفة الصبر والشكر تقاعد عن معرفة من به الإيمان ، وعن إدراك ما به الإيمان ، فما أحوج كلا الشطرين إلى الإيضاح والبيان ، ونحن نوضح كلا الشطرين في كتاب واحد لارتباط أحدهما بالآخر إن شاء الله تعالى .
[ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، الله ناصر كل صابر، الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحا لذكره، ومصباحا يهتدي به من وفق لشكره، وسببا للمزيد من فضله ونعمته، ودليلا على آلائه وعظمته، أحمده على ما أخذ وأعطى، وعلى ما أبلى وابتلى، الباطن لكل خفية، الحاضر لكل سريرة، العالم بما تكن الصدور وما تخون العيون وتخفي الظنون، وأسأله الصبر على بلوائه، والشكر على نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله غير معدول به، ولا مشكوك فيه، ولا مكفور دينه، ولا مجحود تكوينه، شهادة من صدقت نيته، وصفت دخلته، وخلص يقينه، وثقلت موازينه .
وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، ونجيه وحبيبه، وبعيثه ونجيبه، المختار من خلائقه، والمفتاح لشرح حقائقه، والمختص بفضائل كراماته، والمصطفى لمكارم رسالاته، شهادة يوافق فيها السر الإعلان، والقلب اللسان، صلى الله عليه وعلى آله الأنجم الهداة، وأصحابه السادة الكرام الثقات وسلم تسليما كثيرا كثيرا .
أما بعد، فهذا شرح كتاب "الصبر والشكر"، وهو الثاني من الربع الرابع والثاني والثلاثون من كتب الإحياء للإمام الهمام حجة الإسلام، علم الأئمة الأعلام nindex.php?page=showalam&ids=14847أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، قدس الله سره، وضاعف بره، ونفع بأسرار علومه، ومتع أبصار العارفين في رياض معارفه وفهومه، سلكت فيه منهاج الإيضاح، والبيان والإفصاح، والتبيان لنظم عقود جواهره الفرائد الحسان، وضبط قواعد فوائده المهذبة المؤسسة الأركان، مع كشف العويصات، وتنبيه إلى الإشارات، وعزو الأخبار إلى الرواة، والآثار إلى الوعاة، وتوجيه الأقوال عن الثقات، متجنبا عن الاعتساف والتطويل، ماثلا عن تكثر القال والقيل، متوكلا على المولى المنعم الجليل في التيسير والتسهيل، سائلا منه أن ينفع به قارئه وكاتبه والناظر فيه، وأن يبلغنا من فضله وإحسانه [ ص: 3 ] ما نؤمله ونرتجيه إنه ولي ذلك والقادر عليه، لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب .
قال رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله أهل الحمد والثناء) أصل الثناء من الثني وهو العطف، ومنه الاثنان لعطف أحدهما على الآخر، والثناء لعطف المناقب في المدح، وقد تقدم ذكر الحمد والثناء وبيان النسبة فيما بينهما في أول كتاب العلم، ومعنى كونه أهلا لهما أي مستحقا لهما لكماله في ذاته وصفاته فلا يليق بهما ولا يستحقهما إلا هو جل ذكره وثناؤه، (المنفرد) وفي نسخة: (المتفرد) (برداء الكبرياء) أي: العظمة والجلال، وفيه تلميح إلى الحديث القدسي، nindex.php?page=hadith&LINKID=687923قال الله تعالى: "الكبرياء ردائي"، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب ذم الكبر والعجب، وسبق الكلام على الانفراد والتفرد في كتاب "قواعد العقائد"، (المتوحد بصفات المجد والعلاء) المجد السعة في الكرم والجلال والعز والشرف، والعلاء رفعة القدر أي هو تعالى مختص بتلك الصفات فلا يشاركه فيها أحد، (المؤيد صفوة الأولياء) أي: خاصتهم بقوة الصبر على السراء والضراء والشكر على البلاء والنعماء، والسراء والضراء حالتا المسرة والمضرة، والبلاء اسم من الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان، واختيار الله تعالى لعباده تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، فصار المنحة والمحنة بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلاءين .
(والصلاة على سيدنا محمد سيد الأنبياء) أي: رئيسهم وزعيمهم، وقد ثبتت سيادته على ولد آدم بالأخبار الصحيحة، (وعلى أصحابه سادة الأصفياء، وعلى آله قادة البررة الأتقياء، صلاة محروسة بالدوام عن الفناء) أي: تدوم أبد الآباد فلا تفنى، (ومصونة) أي: محفوظة (بالتعاقب) أي: التوالي والتكرار (عن التصرم والانقضاء) أي: الانقطاع والانتهاء، وحكم إفراد الصلاة عن السلام تقدم البحث فيه في أول كتاب العلم .
(أما بعد فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، كما وردت به الآثار، وشهدت له الأخبار) ، قال العراقي رواه الديلمي في مسند الفردوس من رواية يزيد الرقاشي عن nindex.php?page=showalam&ids=9أنس ، ويزيد ضعيف اهـ. قلت: وكذلك رواه nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في الشعب، ولكن بلفظ: "نصف في الصبر، ونصف في الشكر". (وهما أيضا وصفان من أوصاف الله تعالى، واسمان من أسمائه الحسنى إذ سمى نفسه صبورا وشكورا) ، فالصبور هو الذي لا تحمله العجلة على المسارعة إلى الفعل قبل أوانه بل ينزل الأمور بقدر معلوم، ويجريها على سنن محدود، لا يؤخرها عن آجالها المقدرة لها تأخير متكاسل، ولا يقدمها على أوقاتها تقديم مستعجل، بل يودع كل شيء في أوانه على الوجه الذي يجب أن يكون، وكما ينبغي، وكل ذلك في غير مقاساة داع على مضادة الإرادة .
والشكور هو الذي يجازي بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعيما في الآخرة غير محدود، ومن جازى الحسنة بأضعافها يقال: إنه شكور بتلك الحسنة، ومن أثنى على المحسن أيضا فيقال: إنه شكور، فإن نظرت إلى معنى الزيادة في المجازاة لم يكن الشكور المطلق إلا هو سبحانه؛ لأن زيادته في المجازاة غير محصورة ولا محدودة، وإن نظرت إلى معنى الثناء فثناء كل مثن على فعل غيره، والرب تعالى إذا أثنى على أعمال عباده فقد أثنى على فعل نفسه؛ لأن أعمالهم من خلقه، وإن كان الذي أعطى فأثنى شكورا، فالذي أعطى وأثنى على المعطي أحق بأن يكون شكورا، فثناء الله على عباده عطية منه، (فالجهل بحقيقة الصبر والشكر جهل بكلا شطري الإيمان ثم هو غفلة عن) معرفة (وصفين من أوصاف الرحمن) جل وعز، (ولا سبيل إلى القرب من الله تعالى بالإيمان) به، (وكيف يتصور سلوك سبيل الإيمان دون معرفة ما به الإيمان) وهو الصبر والشكر، (ومن به الإيمان) وهو الصبور الشكور، (والتقاعد عن معرفة الصبر والشكر تقاعد عن معرفة من به الإيمان، وعن إدراك ما به الإيمان، فما أحوج كلا الشطرين إلى الإيضاح والبيان، ونحن) بحمد الله تعالى (نوضح كلا الشطرين في كتاب واحد لارتباط أحدهما بالآخر إن شاء الله تعالى) أي: فلم يفرد لكل واحد منهما كتابا كما فعله غيره من المتكلمين على مقامات اليقين .