النوع الثاني : ما لا يوافق الهوى والطبع وذلك لا يخلو إما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصي أو لا يرتبط باختيار كالمصائب والنوائب أو لا يرتبط باختياره ، ولكن له اختيار في إزالته كالتشفي من المؤذي بالانتقام منه ، فهذه ثلاثة أقسام .
القسم الأول : ما يرتبط باختياره ، وهو سائر أفعاله التي توصف بكونها طاعة أو معصية ، وهما ضربان .
الضرب الأول : الطاعة ، والعبد يحتاج إلى الصبر عليها ، فالصبر على الطاعة شديد لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبية ، ولذلك قال بعض العارفين : ما من نفس إلا وهي مضمرة ما أظهر فرعون من قوله : أنا ربكم الأعلى ، ولكن فرعون وجد له مجالا وقبولا فأظهره إذ استخف قومه : فأطاعوه وما من أحد إلا وهو يدعي ذلك مع عبده وخادمه وأتباعه ، وكل من هو تحت قهره وطاعته ، وإن كان ممتنعا من إظهاره فإن استشاطته وغيظه عند تقصيرهم في خدمته واستعباده ، ذلك ليس يصدر إلا عن إضمار الكبر ومنازعة الربوبية في رداء الكبرياء .
فإذن العبودية شاقة على النفس مطلقا ، ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة ، ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة ، ومنها ما يكره بسببهما جميعا كالحج والجهاد فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد .
الحالة الثانية : حالة العمل كي لا ، يغفل عن الله في أثناء عمله ، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه ، ويدوم على شرط الأدب إلى آخر العمل الأخير ، فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ وهذا أيضا من شدائد الصبر ، ولعله المراد بقوله تعالى : نعم أجر العاملين الذين صبروا أي : صبروا إلى تمام العمل .
الحالة الثالثة : بعد الفراغ من العمل إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به للسمعة والرياء ، والصبر عن النظر إليه بعين العجب وعن ، كل ما يبطل عمله ، ويحبط أثره ، كما قال تعالى : ولا تبطلوا أعمالكم ، وكما قال تعالى : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ، فمن لا يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى فقد أبطل عمله .
والطاعات تنقسم إلى فرض ونفل ، وهو محتاج إلى الصبر عليهما جميعا ، وقد جمعهما الله تعالى في قوله : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، فالعدل هو الفرض ، والإحسان هو النفل ، وإيتاء ذي القربى هو المروءة وصلة الرحم ، وكل ذلك يحتاج إلى صبر .
الضرب الثاني المعاصي فما أحوج العبد إلى الصبر عنها ، وقد جمع الله تعالى أنواع المعاصي في قوله تعالى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وقال صلى الله عليه وسلم : المهاجر من هجر السوء ، والمجاهد من جاهد هواه والمعاصي مقتضى باعث الهوى .
وأشد أنواع الصبر الصبر عن المعاصي التي صارت مألوفة بالعادة فإن العادة طبيعة خامسة فإذا انضافت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله تعالى ، فلا يقوى باعث الدين على قمعها ثم إن كان ذلك الفعل مما تيسر فعله كان الصبر عنه أثقل على النفس كالصبر عن معاصي اللسان من الغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضا وتصريحا .
وأنواع المزح المؤذي للقلوب ، وضروب الكلمات التي يقصد بها الإزراء والاستحقار وذكر الموتى والقدح فيهم وفي علومهم وسيرهم ومناصبهم ، فإن ذلك في ظاهره غيبة ، وفي باطنه ثناء على النفس فللنفس فيه شهوتان إحداهما نفي الغير ، والأخرى إثبات نفسه وبها تتم له الربوبية التي هي في طبعه وهي ضد ما أمر به من العبودية ولاجتماع الشهوتين ، وتيسر تحريك اللسان ، ومصير ذلك معتادا في المحاورات ، يعسر الصبر عنها .وهي أكبر الموبقات حتى بطل استنكارها واستقباحها من القلوب لكثرة تكريرها ، وعموم الأنس بها ، فترى الإنسان يلبس حريرا مثلا فيستبعد غاية الاستبعاد ، ويطلق لسانه طول النهار في أعراض الناس ولا يستنكر ذلك ، مع ما ورد في الخبر من أن الغيبة أشد من الزنا ومن لم يملك لسانه في المحاورات ولم يقدر على الصبر فيجب عليه العزلة والانفراد فلا ينجيه غيره فالصبر على الانفراد أهون من الصبر على السكوت مع المخالطة وتختلف شدة الصبر في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعصية في قوتها وضعفها ، وأيسر من حركة اللسان حركة الخواطر باختلاج الوساوس فلا جرم يبقى حديث النفس في العزلة ، ولا يمكن الصبر عنه أصلا إلا بأن يغلب على القلب هم آخر في الدين يستغرقه كمن أصبح وهمومه هم واحد والآفات لم يستعمل الفكر في شيء معين لم يتصور فتور الوسواس عنه .
(النوع الثاني: ما لا يوافق الهوى والطبع) ولا يلائمه، (وذلك لا يخلو إما أن يرتبط باختبار العبد كالطاعات والمعاصي أو لا يرتبط باختياره كالمصائب والنوائب أو لا يرتبط) أوله (باختياره، ولكن له اختيار في إزالته كالتشفي من المؤذي بالانتقام منه، فهذه ثلاثة أقسام، القسم الأول: ما يرتبط باختياره، وهو سائر أفعاله التي توصف بكونها طاعة ومعصية، وهما ضربان؛ الضرب الأول: الطاعة، والعبد يحتاج إلى الصبر عليها، فالصبر على الطاعة شديد) وفيه مشقة؛ (لأن النفس بطبعها تنفر عن) ذل (العبودية وتشتهي) عز (الربوبية، ولذلك قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وهي مضمرة ما أظهره فرعون من قوله: أنا ربكم الأعلى، ولكن فرعون وجد له مجالا وقبولا فأظهر) ما كان مضمرا في قلبه؛ (إذ استخف قومه) أي: وجدهم أخفاء العقول (فأطاعوه) وامتثلوا له. (وما من أحد إلا وهو يدعي ذلك مع عبده وخادمه وأتباعه، وكل من هو تحت قهره وطاعته، وإن كان ممتنعا من إظهاره) بلسانه (فإن امتعاضه) أي: احتقاره (وغيظه عند تقصيرهم في خدمته، واستبعاده ذلك ليس يصدر إلا عن إضمار الكبر ومنازعة الربوبية في رداء الكبرياء) يشير إلى الحديث القدسي المتقدم بذكر: من نازعني رداء الكبرياء قصمته.
(فإذا العبودية شاقة على النفس مطلقا، ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة، ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يكره بسببها جميعا كالحج والجهاد) ، فإنهما عبادتان مشتركتان في المال والبدن، (فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد، ويحتاج المطيع إلى الصبر على طاعته في ثلاثة أحوال الأولى قبل الطاعة) أي: قبل الشروع فيها، (وذلك في تصحيح النية، والإخلاص والصبر عن شوائب الرياء، ودواعي الآفات، وعند العزم على الإخلاص، وذلك من الصبر الشديد عند من يعرف حقيقة النية والإخلاص) على ما سيأتي بيانه في كتاب الإخلاص، (وآفات الرياء ومكايد النفس) على ما تقدم في كتاب ذم الرياء، (وقد نبه عليه صلى الله عليه وسلم إذ قال: nindex.php?page=hadith&LINKID=680730إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) متفق عليه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=2عمر، وقد تقدم (وقال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ، ولهذا المعنى قدم الله تعالى الصبر على العمل فقال) جل ذكره ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ) أشار إليه صاحب القوت، وهذا يسمى الصبر لله .
(الحالة الثانية: حالة العمل، كيلا يغفل عن الله تعالى في أثناء عمله، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه، ويدوم على شرط الأدب إلى آخر العمل الأخير، فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ) منه، ويتأنى ويترك العجلة حتى ينقضي صحيح الأركان والسنن والهيئات، (وهذا أيضا من شدائد الصبر، ولعله المراد بقوله تعالى: نعم أجر العاملين الذين صبروا أي: صبروا إلى تمام العمل) ، وهذا يسمى الصبر مع الله.
(الحالة الثالثة: الصبر بعد الفراغ من العمل إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه) لغيره (و) عن (التظاهر به للسمعة والرياء، والصبر عن النظر إليه بعين العجب، ومن كل ما يبطل عمله، ويحبط أثره، كما قال [ ص: 23 ] تعالى: ولا تبطلوا أعمالكم ، وكما قال تعالى: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ، فمن لم يصبر بعد الصدقة على المن والأذى فقد أبطل عمله) وأحبط أجره، قال بعض السلف: لا يتم المعروف إلا بثلاث، تعجيله وتصغيره وكتمه. وكذلك الصبر بترك التكبر به على أحد من العباد، والإدلال به على الله بل رؤية المنة والفضل، وما أحوج العبادة إلى الصبر في عدم دخول هذه الآفات عليها، وهذا القسم يسمى الصبر بالله وإليه الإشارة بقوله تعالى: واصبر وما صبرك إلا بالله . (والطاعات تنقسم إلى فرض ونفل، وهو محتاج إلى الصبر عليهما جميعا، وقد جمعهما الله تعالى في قوله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، فالعدل هو الفرض، والإحسان هو النفل، وإيتاء ذي القربى هو المروءة وصلة الرحم، وكل ذلك يحتاج إلى صبر. الضرب الثاني المعاصي فما أحوج العبد إلى الصبر عنها، وقد جمع الله أنواع المعاصي في قوله: وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) وقال صاحب القوت: ومن الصبر كف الأذى عن الخلق، وهو مقام العادلين، يدخل في قوله: إن الله يأمر بالعدل ، ثم احتمال الأذى من الخلق، وهو مقام المحسنين يدخل في قوله تعالى: "والإحسان"، ومن الصبر الصبر على الإنفاق وإعطاء أهل الحقوق حقوقهم الأقرب فالأقرب، وهذا مقام المقربين يدخل في قوله تعالى: "وإيتاء ذي القربى"، ومنه الصبر عن الفحشاء، وهو الأمر الفاحش في العلم والإيمان، والصبر على المنكر، وهو ما أنكره العلماء، والصبر عن البغي وهو التطاول والعلو ومجاوزة الحد بالكبر والإسراف في أمور الدنيا، فهذه الآية جامعة لمعنى الصبر، وهو قطب القرآن ثلاث منها الصبر على العدل والإحسان والإعطاء، وثلاث منها الصبر عن الفحشاء والمنكر والبغي، وكان ابن مسعود يقول: هذه الآية أجمع آية في كتاب الله لأمر ونهي .
(وقال صلى الله عليه وسلم: المهاجر من هجر السوء، والمجاهد من جاهد هواه) .
قال العراقي : رواه nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه بالشطر الأول، nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي في الكبرى بالشطر الثاني، كلاهما من حديث فضالة بن عبيد بإسنادين جيدين وقد تقدما .
(والمعاصي مقتضى باعث الهوى) ، وفي نسخة: بواعث الهوى (وأشد أنواع الصبر عن المعاصي الصبر عن المعاصي التي صارت مألوفة) للطبع (بالعادة) واعتاد عليها، وأنس بها، (فإن العادة) كما قالوا (طبيعة خامسة) زائدة على الطباع الأربعة (فإذا انضافت إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله تعالى، فلا يقوى باعث الدين على قبعها) وإزالتها (ثم إن كان ذلك الفعل مما يتيسر فعله كان الصبر عنه أثقل على النفس) وأشد، (كالصبر عن معاصي اللسان من الغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضا وتصريحا، وأنواع المزاح المؤذي للقلوب، وضروب الكلمات التي يقصد بها الإزراء والاستحقار و) من ذلك (ذكر الموتى والقدح فيهم وفي علومهم وسيرهم) وأحوالهم (ومناصبهم، فإن ذلك في ظاهره غيبة، وفي باطنه ثناء على النفس) ومدح لها (فللنفس فيه شهوتان إحداهما نفي الغير، والأخرى إثبات نفسه وبها) أي: بهذه الشهوة، وفي نسخة: بهما (تتم له الربوبية التي هي) مضمرة (في طبعه وهي ضد ما أمر به من العبودية) في قوله: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
(ولاجتماع الشهوتين، وتيسر تحريك اللسان، ومصير ذلك معتادا في المحاورات، يعسر الصبر عنها حتى بطل استنكارها واستقباحها من القلوب) ، وذلك (لكثرة تكريرها، وعموم الأنس بها، فترى الإنسان يلبس حريرا مثلا فيستبعد غاية الاستبعاد، ويطلق لسانه طول النهار في أعراض الناس فلا يستنكر ذلك، مع ما ورد في الخبر من أن الغيبة أشد من الزنا) ، رواه nindex.php?page=showalam&ids=12938ابن النجار من حديث nindex.php?page=showalam&ids=36جابر والديلمي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد، وتمام الحديث: nindex.php?page=hadith&LINKID=912370 "وأن الرجل يزني [ ص: 24 ] فيتوب فيتوب الله عليه، وأن صاحب الغيبة لا يغفر الله له حتى يغفر له صاحبه"، وقد تقدم في آفات اللسان .
(ومن لم يملك لسانه) وفي نسخة: نفسه (في المحاورات ولم يقدر على الصبر فيجب عليه العزلة والانفراد) عن الناس، (فلا ينجيه) من ذلك (غيره فالصبر على الانفراد أهون من الصبر على السكوت مع المخالطة) معهم .
(وتختلف شدة الصبر في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعصية في قوتها وضعفها، وأيسر من حركة اللسان حركة الخواطر) من الباطن (باختلاج الوساوس فلا جرم يبقى حديث النفس في العزلة، ولا يمكن الصبر عنه أصلا إلا بأن يغلب على القلب هم آخر في الدين يستغرقه) ويستولي عليه (كمن أصبح وهمومه هم واحد) أي: اجتمعت في هم واحد ولم تتشعب به (والآفات لم يستعمل الفكر في شيء معين لم يتصور فتور الوسواس عنه) أبدا .