قسمة خامسة اعلم أن النعمة يعبر بها عن كل لذيذ ، واللذات بالإضافة إلى الإنسان من حيث اختصاصه بها أو مشاركته لغيره ثلاثة أنواع : عقلية وبدنية مشتركة مع بعض الحيوانات وبدنية مشتركة مع جميع الحيوانات أما العقلية فكلذة العلم والحكمة إذ ليس يستلذها السمع والبصر والشم والذوق ولا البطن ولا الفرج ، وإنما يستلذها القلب لاختصاصه بصفة يعبر عنها بالعقل ، وهذه أقل اللذات وجودا ، وهي أشرفها ، أما قلتها فلأن العلم لا يستلذه إلا عالم ، والحكمة لا يستلذها إلا حكيم ، وما أقل أهل العلم والحكمة ، وما أكثر المتسمين باسمهم ، والمترسمين برسومهم ، وأما شرفها فلأنها لازمة لا تزول أبدا لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ودائمة لا تمل ، فالطعام يشبع منه فيمل ، وشهوة الوقاع يفرغ منها فتستثقل والعلم والحكمة قط لا يتصور أن تمل وتستثقل ومن قدر على الشريف الباقي أبد الآباد إذا رضي بالخسيس الفاني في أقرب الآماد فهو مصاب في عقله ، محروم لشقاوته وإدباره وأقل أمر فيه أن العلم والعقل لا يحتاج إلى أعوان وحفظة بخلاف المال إذ العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والعلم يزيد بالإنفاق والمال ينقص بالإنفاق ، والمال يسرق والولاية يعزل عنها ، والعلم لا تمتد إليه أيدي السراق بالأخذ ، ولا أيدي السلاطين بالعزل ، فيكون صاحبه في روح الأمن أبدا ، وصاحب المال والجاه في كرب الخوف أبدا ثم العلم نافع ، ولذيذ ، وجميل في كل حال أبدا والمال تارة يجذب إلى الهلاك وتارة يجذب إلى النجاة ولذلك ذم الله تعالى المال في القرآن في مواضع وإن سماه خيرا في مواضع وأما قصور أكثر الخلق عن إدراك لذة العلم فإما لعدم الذوق فمن لم يذق لم يعرف ولم يشتق إذ الشوق تبع الذوق وإما لفساد أمزجتهم ومرض ، قلوبهم بسبب اتباع الشهوات كالمريض الذي لا يدرك حلاوة العسل ويراه مرا وإما لقصور فطنتهم إذ لم تخلق لهم بعد الصفة التي بها يستلذ العلم كالطفل الرضيع الذي لا يدرك لذة العسل والطيور السمان ، ولا يستلذ إلا اللبن ، وذلك لا يدل على أنها ليست لذيذة ، ولا استطابته اللبن تدل على أنه ألذ الأشياء ، فالقاصرون عن درك لذة العلم والحكمة ثلاثة : إما من لم يحي باطنه كالطفل وإما من مات بعد الحياة باتباع الشهوات وإما من مرض بسبب اتباع الشهوات وقوله تعالى " في قلوبهم مرض " إشارة إلى مرض العقول ، وقوله عز وجل : لينذر من كان حيا إشارة إلى من لم يحي حياة باطنة وكل حي بالبدن ميت بالقلب فهو عند الله من الموتى : وإن كان عند الجهال من الأحياء ، ولذلك كان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فرحين وإن كانوا موتى بالأبدان . الثانية لذة يشارك الإنسان فيها بعض الحيوانات كلذة الرياسة والغلبة والاستيلاء وذلك موجود في الأسد والنمر وبعض الحيوانات الثالثة ما يشارك فيها سائر الحيوانات كلذة البطن والفرج ، وهذه أكثرها وجودا وهي أخسها ولذلك اشترك فيها كل ودرج حتى الديدان والحشرات ، ومن جاوز هذه الرتبة تشبثت به لذة الغلبة وهو ، أشدها التصاقا بالمتغافلين ، فإن جاوز ذلك ارتقى إلى الثالثة فصار أغلب اللذات عليه لذة العلم والحكمة لا سيما ، لذة معرفة الله تعالى ، ومعرفة صفاته وأفعاله ، وهذه رتبة الصديقين ولا ينال تمامها إلا بخروج استيلاء حب الرياسة من القلب ، وآخر ما يخرج من رءوس الصديقين حب الرياسة وأما شره البطن والفرج فكسره مما يقوى عليه الصالحون وشهوة الرياسة لا يقوى على كسرها إلا الصديقون فأما قمعها بالكلية حتى لا يقع بها الإحساس على الدوام وفي اختلاف الأحوال فيشبه أن يكون خارجا عن مقدور البشر نعم تغلب لذة معرفة الله تعالى في أحوال لا يقع معها الإحساس بلذة الرياسة والغلبة ، ولكن ذلك لا يدوم طول العمر بل تعتريه الفترات فتعود إلى الصفات البشرية فتكون موجودة ولكن تكون مقهورة لا تقوى على حمل النفس على العدول عن العدل وعند هذا تنقسم القلوب إلى أربعة أقسام : قلب لا يحب إلا الله تعالى ، ولا يستريح إلا بزيادة المعرفة به ، والفكر فيه ، وقلب لا يدري ما لذة المعرفة ، وما معنى الأنس بالله ، وإنما لذته بالجاه ، والرياسة ، والمال ، وسائر الشهوات البدنية ، وقلب أغلب أحواله الأنس بالله سبحانه ، والتلذذ بمعرفته ، والفكر فيه ، ولكن قد يعتريه في بعض الأحوال الرجوع إلى أوصاف البشرية ، وقلب أغلب أحواله التلذذ بالصفات البشرية ، ويعتريه في بعض الأحوال تلذذ بالعلم والمعرفة ، أما الأول فإن كان ممكنا في الوجود فهو في غاية البعد ، وأما الثاني فالدنيا طافحة به : وأما الثالث والرابع فموجودان ولكن على غاية الندور ، ولا يتصور أن يكون ذلك نادرا شاذا وهو مع الندور يتفاوت في القلة والكثرة ، وإنما تكون كثرته في الأعصار القريبة من أعصار الأنبياء عليهم السلام فلا يزال يزداد العهد طولا وتزداد مثل هذه القلوب قلة إلى أن تقرب الساعة ويقضي الله أمرا كان مفعولا . وإنما وجب أن يكون هذا نادرا لأنه مبادي ملك الآخرة ، والملك عزيز ، والملوك لا يكثرون فكما لا يكون الفائق في الملك والجمال إلا نادرا وأكثر الناس من دونهم فكذا في ملك الآخرة فإن الدنيا مرآة الآخرة فإنها عبارة عن عالم الشهادة ، والآخرة عبارة عن عالم الغيب وعالم الشهادة تابع لعالم الغيب كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في المرآة ، والصورة في المرآة وإن كانت هي الثانية في رتبة الوجود ، فإنها أولى في حق رؤيتك فإنك لا ترى نفسك وترى صورتك في المرآة أولا فتعرف بها صورتك التي هي قائمة بك ثانيا على سبيل المحاكاة فالقلب ، التابع في الوجود متبوعا في حق المعرفة والقلب المتأخر متقدما ، وهذا نوع من الانعكاس ولكن الانعكاس والانتكاس ضرورة هذا العالم ، فكذلك عالم الملك والشهادة محاك لعالم الغيب والملكوت فمن الناس من يسر له نظر الاعتبار فلا ينظر في شيء من عالم الملك إلا ويعبر به إلى عالم الملكوت فيسمى عبوره عبرة وقد أمر الحق به فقال : فاعتبروا يا أولي الأبصار ، ومنهم من عميت بصيرته فلم يعتبر فاحتبس في عالم الملك والشهادة وستنفتح إلى حبسه أبواب جهنم ، وهذا الحبس مملوء نارا من شأنها أن تطلع على الأفئدة : إلا أن بينه وبين إدراك ألمها حجابا ، فإذا رفع ذلك الحجاب بالموت أدرك وعن هذا أظهر الله تعالى الحق على لسان قوم استنطقهم بالحق فقالوا : الجنة والنار مخلوقتان ولكن الجحيم تدرك مرة بإدراك يسمى علم اليقين ومرة بإدراك آخر يسمى عين اليقين وعين اليقين لا يكون إلا في الآخرة وعلم اليقين قد يكون في الدنيا ، ولكن للذين قد وفوا حظهم من نور اليقين فلذلك قال الله تعالى : كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم أي في الدنيا ثم لترونها عين اليقين أي في الآخرة فإذا ، قد ظهر أن القلب الصالح لملك الآخرة لا يكون إلا عزيزا كالشخص الصالح لملك الدنيا .
( قسمة خامسة) :
(اعلم أن النعمة يعبر بها عن كل لذيذ، واللذات بالإضافة إلى الإنسان من حيث اختصاصه بها أو مشاركته لغيره ثلاثة أنواع:) لذة (عقلية و) لذة (بدنية) وهي على قسمين؛ إما (مشتركة مع بعض الحيوانات و) إما (بدنية مشتركة) مع جميع الحيوانات. (أما) اللذة (العقلية فكلذة العلم والحكمة إذ ليس يستلذها السمع والبصر والشم ولا البطن ولا الفرج، وإنما يستلذها القلب لاختصاصه بصفة يعبر عنها بالعقل، وهذه أقل اللذات وجودا، وهي أشرفها، أما قلتها فلأن العلم لا يستلذه إلا عالم، والحكمة لا يستلذها إلا حكيم، وما أقل أهل العلم والحكمة، وما أكثر المتسمين باسمهم، والمترسمين برسمهم، وأما شرفها فلأنها لازمة لا تزول أبدا لا في الدنيا ولا في الآخرة، ودائمة لا تمل، فالطعام يشبع منه فيمل، وشهوة الوقاع يفرغ منها فتستثقل) ولو أنه لا يمل منها (والعلم والحكمة قط لا يتصور أن تمل وتستثقل) فحق العاقل أن يرغب إلى الله في أن يعطيه ما فيه مصلحة مما لا سبيل له بنفسه إلى اكتسابه، وأن يبذل جهده مستعينا بالله في اكتساب ما له كسبه وبلوغ الأعلى فالأعلى منه على الترتيب، فبذلك يشرف .
(ومن قدر على الشريف الباقي أبد الآباد إذا رضي بالخسيس الفاني في أقرب الآماد فهو مصاب في عقله، محروم بشقاوته وإدباره) ومن ضيع أنفس المقتنيات مع التمكن من تحصيله فهو دنيء الهمة راض بخسيس الحال (وأقل أمر فيه أن) كلا من (العلم والعقل) إذا حصل لا يغيب، و (لا يحتاج) في حفظه (إلى أعوان وحفظه بخلاف المال) وغيره من المقتنيات الحالية (إذ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزيد بالإنفاق والمال ينقص بالإنفاق، والمال يصرف والولاية يعزل عنها، والعلم لا تمتد إليه أيدي السراق بالأخذ، ولا أيدي السلاطين بالعزل، فيكون صاحبه في روح الأمن أبدا، وصاحب المال والجاه في كرب الخوف أبدا) وتقدم الكلام على ضده المجمل تفصيلا في كتاب العلم (ثم العلم نافع، ولذيذ، وجميل) عاجلا وآجلا ومطلقا (في كل حال أبدا) أي: في كل زمان وكل مكان، ولذا كان أفضل الفضائل النفسية، (والمال) وكذا الجاه وهما من الخيرات المتوسطة (تارة يجذب إلى الهلاك) إذا كان مع الجهل (وتارة يجذب إلى النجاة) إذا كان مع العلم (ولذلك ذم الله تعالى المال في القرآن في مواضع) كثيرة ونبه على كونه سببا للشر فقال: إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، وقال تعالى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم الآية. ولذلك قيل: السعيد هو الخير العاقل غنيا كان أو فقيرا، قويا كان أو ضعيفا. (وإن سماه خيرا في مواضع) كقوله تعالى: إن ترك خيرا ولكنه قد يكون خيرا لبعض الناس وشرا لبعضهم، فمعلوم أنه كان شرا لمن قال تعالى فيه: الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده .
(وأما قصور أكثر الخلق عن إدراك لذة العلم) والحكمة (فإما لعدم الذوق) وهو تناول الشيء بالفم لإدراك الطعم، هذا هو الأصل (ومن لم يذق لم يعرف ولم يشتق إذ الشوق تبع للذوق) وإليه الإشارة بقول القائل:
ولو يذوق عاذلي صبابتي صبا معي لكنه ما ذاقها
(وإما لفساد أمزجتهم، وتمرض قلوبهم بسبب اتباع الشهوات) فإن لها تأثيرا ظاهرا في تغيير الأمزجة [ ص: 83 ] (كالمريض الذي لا يدرك حلاوة العسل ويراه مرا) كما قال المتنبي:
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا
(وإما لقصور فطرتهم) التي فطروا عليها (إذ لم تخلق لهم بعد الصفة التي بها يستلذ العلم كالطفل الرضيع الذي لا يدرك لذة العسل والطيور السمان، ولا يستلذ إلا اللبن، وذلك لا يدل على أنها ليست لذيذة، ولا استطابته اللبن يدل على أنه ألذ الأشياء، فالقاصرون عن درك لذة العلم والحكمة ثلاثة: إما من لم يحي بعد باطنه كالطفل) فإنه غير متهيئ لذلك (وإما من مات بعد الحياة باتباع الشهوات) فإنها تميت القلوب (وإما من مرض بسبب اتباع الشهوات) ولم يمت بعد فكل هؤلاء قاصرون عن درك اللذة المعنوية، (وقوله تعالى) في حق المنافقين: ("في قلوبهم مرض" إشارة إلى مرض العقول، وقوله تعالى: "لينذر من كان حيا" إشارة إلى من حيي حياة باطنة) وليس المراد به الحياة الظاهرة .
(وكل حي بالبدن ميت بالقلب فهو عند الله من الموتى) أي: يعد منهم (وإن كان) هو (عند الجهال) يعد (من الأحياء، ولذلك كان الشهداء) في سبيل الله (أحياء عند ربهم يرزقون فرحين) كما أخبر بذلك عنهم الله تعالى: (وإن كانوا موتى بالأبدان. الثانية لذة يشارك الإنسان فيها بعض الحيوانات كلذة الرياسة والغلبة والاستيلاء) والقهر، (وذلك موجود في الأسد والنمر وبعض الحيوانات) من السباع والوحوش .
(الثالثة ما يشاركه بها سائر الحيوانات كلذة البطن والفرج، وهذه أكثرها وجودا وهي أخسها) رتبة (ولذلك اشترك فيها كل ما دب) على الأرض (ودرج حتى الديدان والحشرات، ومن جاوز هذه الرتبة تشبثت به لذة الغلبة، وهي أشدها التصاقا بالمتغافلين، فإن جاوز ذلك ارتقى إلى الثالث فصار أغلب اللذات عليه لذة العلم والحكمة، لاسيما لذة معرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته وأفعاله، وهذه رتبة الصديقين) وخرج العارفون من الدنيا ولم يذوقوا أطيب من هذا (ولا ينال تمامها إلا لخروج استيلاء حب الرياسة من القلب، وآخر ما يخرج من رءوس الصديقين حب الرياسة) كما قاله nindex.php?page=showalam&ids=16065سهل رحمه الله تعالى، (وأما شره البطن والفرج فكسره) وقهره (مما يقوى عليه الصالحون) من عباد الله تعالى (وشهوة الرياسة لا يقوى على كسرها) وفي نسخة: قهرها (إلا الصديقون فأما قمعها بالكلية حتى لا يقع بها الإحساس على الدوام وفي اختلاف الأحوال فيشبه أن يكون خارجا عن مقدور البشر) إذ لا بد من معاودة في بعض الأحوال بمقتضى ما جبل عليه البشر (ثم تغلب لذة معرفة الله تعالى في أحوال لا يقع معها الإحساس بلذة الرياسة والغلبة، ولكن ذلك لا يدوم طول العمر بل تعتريه الفترات فتعود إليه الصفات البشرية فتكون موجودة لكن تكون مقهورة) بالعقل (لا تقوى على حمل النفوس على العدول عن) منهج (العدل) المأثور به .
(وعند هذا تنقسم القلوب إلى أربعة أقسام: قلب لا يحب إلا الله، ولا يستريح إلا بزيادة المعرفة به، والفكر فيه، وقلب لا يدري ما لذة المعرفة، وما معنى الأنس بالله، وإنما لذته بالجاه، والرياسة، والمال، وسائر الشهوات البدنية، وقلب أغلب أحواله الأنس بالله، والتلذذ [ ص: 84 ] بمعرفته، والفكر فيه، ولكن قد يعتريه في بعض الأحوال الرجوع إلى أوصاف البشرية، وقلب أغلب أحواله التلذذ بالصفات البشرية، ويعتريه في بعض الأحوال تلذذ بالعلم والمعرفة، أما الأول وإن كان ممكنا في الوجود) لا يستحيله العقل (فهو في غاية البعد، وأما الثاني فالدنيا طافحة به) أي: ممتلئة (وأما الثالث والرابع فموجود ولكن على غاية الندور، ولا يتصور أن يكون إلا نادرا شاذا) قليل الوجود (وهو مع الندور يتفاوت في القلة والكثرة، وإنما تكون كثرته في الأعصار القريبة من أعصار الأنبياء عليهم السلام) لكثرة الأنوار فيها (فلا يزال يزداد العهد طولا وتزداد مثل هذه القلوب قلة إلى أن تقرب الساعة ويقضي الله أمرا كان مفعولا. وإنما وجب أن يكون هذا نادرا لأنه مبادي ملك الآخرة، والملك عزيز، والملوك) يقلون و (لا يكثرون فكما لا يكون الفائق في الملك والجمال) في الدنيا (إلا نادرا وأكثر الناس من دونهم فكذا في ملك الآخرة فإن الدنيا مرآة الآخرة) بها يتراءى ما في الآخرة، (فإنها عالم الشهادة، والآخرة عبارة عن عالم الغيب) المختص (وعالم الشهادة تابع لعالم الغيب كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في المرآة، والصورة في المرآة وإن كانت هي الثانية في رتبة الوجود، فإنها أول في حق رؤيتك فإنك لا ترى نفسك وترى صورتك في المرآة أولا فتعرف بها صورتك التي هي قائمة بك ثانيا على سبيل المحاكاة، فانقلب التابع في الوجود متبوعا في المعرفة وانقلب المتأخر متقدما، وهذا نوع من الانعكاس) غريب المعنى .
(ولكن الانعكاس والانتكاس ضرورة هذا العالم، فكذلك عالم الملك والشهادة محاك لعالم الغيب والملكوت) ، وفي هذا العالم عجائب تستحقر إليها، بالإضافة إلى عالم الشهادة، وهو بالإضافة إلى عالم الملكوت كالقشرة بالإضافة إلى اللب وكالصورة والقالب، بالإضافة إلى الروح وكالظلمة، بالإضافة إلى النور وكالسفل، بالإضافة إلى العلو ولذلك يسمى العالم العلوي والروحاني والنوراني، وفي مقابلته العالم السفلي والجسماني والظلماني، قال الله تعالى: وعنده مفاتح الغيب أي من عنده تنزل أسباب الموجودات في عالم الشهادة إذ عالم الشهادة أثر من آثار ذلك العالم يجري منه مجرى الظل، بالإضافة إلى الشخص ومجرى الثمر، بالإضافة إلى المثمر والمسبب، بالإضافة إلى السبب، ومفاتيح معرفة المسببات لا تؤثر من الأسباب، ولذلك كان عالم الشهادة مثالا لعالم الملكوت والمشبه لا يخلو من موازاة الشبه ومحاكاته نوعا من المحاكاة على قرب أو على بعد فلو لم يكن بينهما مناسبة واتصال لما تصور الترقي من أحدهما إلى الآخر، فجعلت الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت فما من شيء من هذا العالم إلا وهو مثال شيء من ذلك العالم، وربما كان الشيء الواحد مثالا لأشياء من الملكوت، وربما كان للشيء الواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة، وإنما يكون مثالا إذا ماثله نوعا من المماثلة وطابقه نوعا من المطابقة .
(فمن الناس من يسر له نظر الاعتبار فلا ينظر في شيء من عالم الملك) والشهادة (إلا ويعبر به إلى عالم الملكوت فسمي عبوره) ذلك (عبرة) وهو بالكسر من الاعتبار، (وقد أمر الخلق به فقال: فاعتبروا يا أولي الأبصار، ومنهم من عميت بصيرته فلم يعبر فاحتبس في عالم الملك والشهادة وستفتح إلى حبسه أبواب جهنم، وهذا الحبس ممتلئ نارا) أوقدها الله تعالى (شأنها أن تطلع على الأفئدة) أي: تعلو أوساط القلوب وتشتمل عليها (إلا أن بينه وبين إدراك ألمها حجابا، فإذا رفع ذلك الحجاب بالموت أدرك) الألم (وعن هذا أظهر الله تعالى الحق على لسان قوم) من أهل السنة [ ص: 85 ] والجماعة (استنطقهم بالحق فقالوا: الجنة والنار مخلوقتان) وهما موجودتان الآن، فالجنة فوق السموات، والنار تحت الأرضين (ولكن الجحيم تدرك مرة بإدراك يسمى علم اليقين) وهو ما أعطاه الدليل مقصور الأمر على ما هو عليه (ومرة بإدراك آخر يسمى عين اليقين) وهو ما أعطته المشاهدة والكشف (وعين اليقين لا يكون إلا في الآخرة) لأنها محل الشهود والكشف (وعلم اليقين قد يكون في الدنيا، ولكن للذين قد وفوا حظهم من نور اليقين) وهو مشاهدة الغيوب بصفات القلوب وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار، (فلذلك قال تعالى: كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم أي في الدنيا ثم لترونها عين اليقين أي في الآخرة، فإذا قد ظهر أن القلب الصالح لملك الآخرة لا يكون إلا عزيزا كالشخص الصالح لملك الدنيا) .