وهو الكتاب الثالث من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المرجو لطفه : وثوابه : المخوف مكره وعقابه الذي عمر قلوب أوليائه بروح رجائه حتى ساقهم بلطائف آلائه إلى النزول : بفنائه : والعدول : عن دار بلائه : التي هي مستقر أعدائه وضرب بسياط التخويف وزجره العنيف : وجوه المعرضين عن حضرته إلى دار ثوابه وكرامته وصدهم : عن التعرض لأئمته والتهدف لسخطه ونقمته : قودا : لأصناف الخلق بسلاسل القهر والعنف وأزمة الرفق واللطف إلى جنته والصلاة والسلام على محمد سيد أنبيائه ، وخير خليقته : وعلى آله وأصحابه وعترته
أما بعد ، فإن الرجاء والخوف جناحان : بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود ومطيتان : بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة : كؤود فلا يقود : إلى قرب الرحمن ، وروح الجنان ، مع كونه بعيد الأرجاء : ثقيل الأعباء : محفوفا بمكاره القلوب ، ومشاق الجوارح والأعضاء ، إلا أزمة الرجاء ، ولا يصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم مع كونه محفوفا بلطائف الشهوات ، وعجائب اللذات إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف فلا بد إذن من بيان : حقيقتهما وفضيلتهما ، وسبيل التوصل إلى الجمع بينهما مع تضادهما وتعاندهما ونحن نجمع ذكرهما في كتاب واحد .
(بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم الله ناصر كل صابر) الحمد لله الواصل الحمد بالنعم، والنعم بالشكر، والرجاء بالخوف، والخوف بالرجاء والذكر، أحمده على آلائه كما أحمده على بلائه، وأستعينه على هذه النفوس البطء عما أمرت به، السراع إلى ما نهيت عنه، وأستغفره مما أحاط به علمه، وأحصاه كتابه، علم غير قاصر، وكتاب غير مغادر، وأؤمن به إيمان من عاين الغيوب، ووقف على الموعود، إيمانا نفى إخلاصه الشرك، ويقينه الشك، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، شهادتين تصعدان القول، وترفعان العمل، لا يخف ميزان توضعان فيه، ولا يثقل ميزان ترفعان منه، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأئمة الأبرار، وعلى من تبعهم بإحسان إلى ما بعد يوم القرار .
أما بعد، فهذا شرح (كتاب الرجاء والخوف) وهو الثالث من الربع الرابع والثالث والثلاثون من كتب الإحياء، للإمام الهمام حجة الإسلام، nindex.php?page=showalam&ids=14847أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، أفاض الله علينا من لطائف علومه، وأذاقنا حلاوة فهومه، وأجزل قراه، وجعل جنة الفردوس مأواه، جلوت فيه عن عرائس حقائقه المخدرة، ونفائس رقائقه المضنونة المسترة، وسلكت فيه منهاج الإيضاح لعباراته، والإفصاح عن مرمى إشاراته، ممتطيا عزائم الاعتقاد والانتصاف، متجنبا عن التطويل والاعتساف، راجيا من المولى الكريم الإعانة والتوفيق والهداية إلى سواء الطريق، إنه لا رب غيره، ولا خير إلا خيره، الكافي الكفيل، وهو حسبي ونعم الوكيل .
قال المصنف رحمه الله تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم) رجاء كل خائف من العذاب الأليم (الحمد لله المرجو لطفه) أي: رفقه ورأفته (وثوابه) أي: جزاؤه، ويستعمل في الشر والخير، لكن المتعارف في الخير، واستعماله في الشر استعارة كاستعارة البشارة فيه (المخوف مكره) وهو إرداف النعم مع المخالفة، وإبقاء الحال مع سوء الأدب (وعقابه) وهو الإيلام الذي يتعقب به جرم سابق، وفي المرجو والمخوف براعة الاستهلال، وبين الثواب والعقاب حسن المقابلة (الذي عمر قلوب أوليائه بروح رجائه) الروح بالفتح: ما تلذ به النفس، أصله من الريح (حتى ساقهم بلطائف آلائه إلى النزول) أي: الاستقرار (بفنائه) أي: ساحة حضرته، وهي جنة القرب (والعدول) أي: الصرف (عن دار بلائه) أي: امتحانه (التي هي مستقر أعدائه) وهي نار البعد، وبين الأولياء والأعداء حسن المقابلة (وصرف بسياط التخويف وزجره العنيف) أي: الشديد (وجوه المعرضين عن حضرته إلى دار ثوابه وكرامته) [ ص: 164 ] وهي الجنة، فإنها تسمى دار الثواب، ودار الكرامة (وصدهم) أي: منعهم (عن التعرض لأئمته) وهي الملامة اسم من اللوم (والتهدف) وهو التعرض للهدف (لسخطه ونقمته) أي: غضبه وانتقامه (قودا) أي: جذبا (لأصناف الخلق) على تباينهم وكثرتهم (بسلاسل القهر والعنف) تارة (وأزمة الرفق واللطف) أخرى (إلى جنته) والأزمة جمع زمام، وهو ما يقاد به، وفيه إيماء إلى الخبر الوارد: "عجب ربنا من قوم يقادون بالسلاسل إلى الجنة" وقد تقدم. (والصلاة) والسلام (على) سيدنا (محمد سيد أنبيائه، وخير خليقته) أي: مخلوقاته (وعلى آله وأصحابه وعترته) العترة نسل الإنسان، وقيل: أقارب الرجل الأدنون .
(أما بعد، فإن الرجاء والخوف جناحان) أي: بمنزلتهما للطائر (بهما يطير المقربون) إلى الحضرة الذين تم سلوكهم (إلى كل مقام محمود) وفيه إشارة إلى أنهما حالان، وقد يكون المقام حالا، وبالعكس، كما سيأتي، ونقل nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري عن nindex.php?page=showalam&ids=12092أبي علي الروذباري قال : الخوف والرجاء هما كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهب صار الطائر في حد الموت. وفي قوله "مقام محمود" إشارة لما سيأتي له أن الرجاء مقام محمود، كما أن ضده مذموم. (ومطيتان) أي: بمنزلتهما، والمطية يمتطى ظهرها أي يركب (بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة) وهي الثنية بين الجبلين (كؤود) أي: صعبة المرتقى والمنحدر (فلا يقود) أي: لا يسرق (إلى قرب الرحمن، وروح الجنان، مع كونه بعيد الأرجاء) أي: الأطراف (ثقيل الأعباء) أي: الأحمال (محفوفا بمكاره القلوب، ومشاق الجوارح والأعضاء، إلا أزمة الرجاء، ولا يصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم مع كونه محفوفا بلطائف الشهوات، وعجائب اللذات إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف) . وفي الفقرتين تلميح إلى حديث: nindex.php?page=hadith&LINKID=662057 "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".
(فلا بد إذا من بيان حقائقهما) أي: الرجاء والخوف (وفضيلتهما، وسبيل التوصل إلى الجمع بينهما مع تضادهما وتعاندهما) وليس المراد بالتضاد هنا أنهما مما يستحيل اجتماعهما في موضع واحد، وإنما يتعاقبان كالسواد والبياض، فسيأتي للمصنف قريبا أن الخوف ليس بضد للرجاء، بل هو رفيق له، وإنما المراد به هنا معنى التعاند والتصاعب، وإلا لما أمكن الجمع بينهما. (ونحن نجمع ذكرهما في كتاب واحد) ؛ إذ لابد للمؤمن من اجتماعهما، وعدم انفكاك أحدهما. وهذا بخلاف غير المصنف كالقشيري، وصاحب القوت، فإنهما ذكرا كل واحد منهما في باب مستقل .