إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإذا العبد المجتهد في الطاعات المجتنب للمعاصي حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة ، وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة وأما العاصي فإذا تاب وتدارك جميع ما فرط منه من تقصير فحقيق بأن يرجو قبول التوبة وأما قبول التوبة إذا كان كارها للمعصية تسوءه السيئة ، وتسره الحسنة ، وهو يذم نفسه ويلومها ، ويشتهي التوبة ويشتاق إليها ، فحقيق بأن يرجو من الله التوفيق للتوبة ؛ لأن ، كراهيته للمعصية وحرصه على التوبة ، يجري مجرى السبب الذي قد يفضي إلى التوبة وإنما الرجاء بعد تأكد الأسباب ولذلك قال تعالى : إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله ، معناه أولئك يستحقون أن يرجوا رحمة الله وما أراد به تخصيص وجود الرجاء لأن غيرهم أيضا قد يرجو ، ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء فأما من ينهمك فيما يكرهه الله ، تعالى ولا يذم نفسه عليه ، ولا يعزم على التوبة والرجوع فرجاؤه المغفرة حمق كرجاء من بث البذر في أرض سبخة ، وعزم على أن لا يتعهده بسقي ولا تنقية

قال يحيى بن معاذ من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة ، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة ، وانتظار زرع الجنة ببذر النار ، وطلب دار المطيعين بالمعاصي ، وانتظار الجزاء بغير عمل ، والتمني على الله عز وجل مع الإفراط


ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

فإذا عرفت حقيقة الرجاء ، ومظنته ، فقد علمت أنها حالة أثمرها العلم بجريان أكثر الأسباب ، وهذه الحالة تثمر الجهد للقيام ببقية الأسباب على حسب الإمكان ، فإن من حسن بذره ، وطابت أرضه ، وغزر ماؤه ، صدق رجاؤه ، فلا يزال يحمله صدق الرجاء على تفقد الأرض وتعهدها ، وتنحية كل حشيش ينبت فيها ، فلا يفتر عن تعهدها أصلا إلى وقت الحصاد ، وهذا لأن الرجاء يضاده اليأس ، واليأس يمنع من التعهد ، فمن عرف أن الأرض سبخة ، وأن الماء معوز : وأن البذر لا ينبت ، فيترك لا محالة تفقد الأرض ، والتعب في تعهدها . والرجاء محمود لأنه باعث واليأس مذموم وهو ضده لأنه صارف عن العمل والخوف ليس بضد للرجاء بل هو رفيق له ، كما سيأتي بيانه ، بل هو : باعث آخر بطريق الرهبة كما أن الرجاء باعث بطريق الرغبة فإذا حال الرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال ، والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال .


ثم أشار المصنف إلى مظان الحاجة إلى استعمال الرجاء، وأن لاستعماله مواطن بقوله: (فإذا العبد المجتهد في الطاعات المجتنب للمعاصي) إلا الصغائر، التي لا يخلو من مثلها البشر غير الأنبياء (حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة، وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة) كما في الخبر الآتي قريبا. هذا هو الموطن الأول، (وأما العاصي فإذا تاب وتدارك جميع ما فرط منه من تقصير فحقيق بأن يرجو قبول التوبة) وهذا هو الموطن الثاني، (وأما قبول التوبة إذا كان كارها للمعصية تسوءه السيئة، وتسره الحسنة، وهو يذم نفسه ويلومها، فيشتهي التوبة ويشتاق إليها، فحقيق بأن يرجو من الله التوفيق للتوبة؛ لأن كراهية المعصية، وحرصه على التوبة، يجري مجرى السبب) المغلب لجانب الرجاء (الذي قد يفضي إلى التوبة) وهذا هو الموطن الثالث، (وإنما الرجاء بعد تأكد الأسباب) وتمهدها بتمامها (ولذلك قال تعالى: إن الذين آمنوا والذين هاجروا ) أي: السيئات واللذات ( وجاهدوا في سبيل الله ) أي: بتكثير الطاعات ( أولئك يرجون رحمت الله ، معناه أولئك يستحقون أن يرجوا) رحمة ربهم .

(وما أراد به تخصيص وجود الرجاء لأن غيرهم أيضا قد يرجو، ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء) مشيرا لبعد منزلتهم بلفظ أولئك، (فأما من ينهمك فيما يكرهه الله، ولا يذم نفسه عليه، ولا يعزم على التوبة والرجوع) إليه (فرجاؤه المغفرة حمق) وغرور كما قيل: الغرة بالله أن يعمل الرجل بمعصية الله ويتمنى مغفرته ورجاءه، (كرجاء من بث البذر في أرض سبخة، وعزم على ألا يتعهده بسقي ولا تنقية) وإصلاح. (قال يحيى بن معاذ) الرازي رحمه الله تعالى: (من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذنوب على رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله عز وجل مع الإفراط في أمل. وأنشد:)

ما بال دينك ترضى أن تدنسه وثوبك الدهر مغسول من الدنس


(ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها     إن السفينة لا تجري على اليبس)

(فإذا عرفت حقيقة الرجاء، ومظنته، فقد علمت أنها حالة أثمرها العلم بجريان أكثر الأسباب، وهذه الحالة تثمر الجهد للقيام ببقية الأسباب على حسب الإمكان، فإن من حسن بذره، وطابت أرضه، وغزر ماؤه، صدق رجاؤه، فلا يزال يحمله صدق الرجاء على تفقد الأرض وتعهدها، وتنحية كل حشيش ينبت فيها، فلا يفتر عن تعهدها أصلا إلى وقت الحصاد، وهذا لأن الرجاء يضاده اليأس، واليأس يمنع من التعهد، فمن عرف أن الأرض سبخة، وأن الماء معوز) أي: قليل الوجود (وأن البذر لا ينبت، فيترك لا محالة تفقد الأرض، والتعب في تعهدها. والرجاء محمود) مقامه (لأنه باعث) على العمل حاث عليه كالخوف (واليأس) [ ص: 168 ] الذي هو ضده (مذموم وهو ضده لأنه صارف عن العمل) ولفظ القشيري: فالرجاء محمود، والتمني معلول .

(والخوف ليس بضد للرجاء) كما يتبادر إلى الأذهان (بل هو رفيق له، كما سيأتي بيانه، بل هو) أي: الخوف باعث آخر بطريق آخر بطريق الرهبة، كما أن الرجاء (باعث بطريق الرغبة) ؛ لأن السبب الموجب للخوف هو بعينه سبب الرجاء؛ لأن الصفات القديمة تعلقت بكل موجود في الوجود، ومتعلقاتها لا تنقضي سرمدا فهي التي يصدر عنها كل ما ساء وسر، ونفع وضر، فقد قهر وجبر، وأعطى ومنع، كل ذلك على أتم أنواع الكمال، فمن عرف ذلك من صفاته تعالى خافه ورجاه، وهذا هو الرجاء لذاته الذي لا يتوقع بحسنة، ولا يندفع بسيئة، إنما ينشأ من فضل الله الذي هو فضله لمن اختصه في أزله من عباده، كما أن الخوف ينشأ عن عدل الله الذي هو عدله لمن أبعده عن حضرته في أزله. وينتفع بهذا الرجاء من أخرجه خوف الذنوب والعيوب إلى اليأس والقنوط، وينتفع بالخوف الذي يراد لذاته من أخرجه رؤية كثرة الأعمال إلى الإدلال والأمن والاغترار. (فإذا حال الرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال، والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال) ولاستعماله مواطن ثلاثة قد أشار إليها المصنف قريبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية