وفائدة الخوف الحذر ، والورع ، والتقوى ، والمجاهدة ، والعبادة ، والفكر ، والذكر ، وسائر الأسباب الموصلة إلى الله تعالى ، وكل ذلك يستدعي الحياة مع صحة البدن ، وسلامة العقل ، فكل ما يقدح في هذه الأسباب فهو مذموم
فإن قلت : من خاف فمات من خوفه فهو شهيد ، فكيف يكون حاله مذموما ؟! فاعلم أن معنى كونه شهيدا أن له رتبة بسبب موته من الخوف كان لا ينالها لو مات في ذلك الوقت ، لا بسبب الخوف ، فهو بالإضافة إليه فضيلة ، فأما بالإضافة إلى تقدير بقائه ، وطول عمره في طاعة الله ، وسلوك ، سبله فليس بفضيلة بل للسالك إلى الله تعالى بطريق الفكر والمجاهدة ، والترقي في درجات المعارف ، في كل لحظة رتبة شهيد ، وشهداء ولولا هذا لكانت رتبة صبي يقتل أو مجنون يفترسه سبع أعلى من رتبة نبي أو ولي يموت حتف أنفه وهو محال ، فلا ينبغي أن يظن هذا بل أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله تعالى فكل ما أبطل العمر أو العقل أو الصحة التي يتعطل العمر بتعطيلها فهو خسران ونقصان ، بالإضافة إلى أمور ، وإن كان بعض أقسامها فضيلة ، بالإضافة إلى أمور أخر كما كانت الشهادة فضيلة ، بالإضافة إلى ما دونها لا بالإضافة إلى درجة المتقين والصديقين ، فإذن الخوف إن لم يؤثر في العمل فوجوده كعدمه مثل السوط الذي لا يزيد في حركة الدابة ، وإن أثر فله درجات بحسب ظهور أثره ، فإن لم يحمل إلا على العفة ، وهي الكف عن مقتضى الشهوات ، فله درجة ، فإذا أثمر الورع فهو أعلى وأقصى درجاته : أن يثمر درجات الصديقين ، وهو أن يسلب الظاهر والباطن عما سوى الله تعالى حتى لا يبقى لغير الله تعالى فيه متسع ، فهذا أقصى ما يحمد منه وذلك مع بقاء الصحة والعقل فإن جاوز هذا إلى إزالة العقل والصحة فهو مرض يجب علاجه إن قدر عليه ، ولو كان محمودا لما وجب علاجه بأسباب الرجاء ، وبغيره حتى يزول : ولذلك كان سهل رحمه الله يقول للمريدين الملازمين للجوع أياما كثيرة احفظوا عقولكم فإنه لم يكن لله تعالى ولي ناقص العقل
.
(وفائدة الخوف الحذر، والورع، والتقوى، والمجاهدة، والعبادة، والفكر، والذكر، وسائر الأسباب الموصلة إلى الله تعالى، وكل ذلك يستدعي الحياة مع صحة البدن، وسلامة العقل، فكل ما يقدح في هذه الأسباب فهو مذموم) . والقدر الواجب منه ما يحث على فعل الواجبات، وترك المحظورات، ويستحب استيلاؤه على القلب حتى ينفي بذلك كل سبب يشغل عن الله، (فإن قلت: فمن خاف فمات من خوفه فهو شهيد، فكيف يكون حاله مذموما؟!) . وقد ذكرت أن الخوف إذا تجاوز عن حد الاعتدال حتى أدى إلى الموت فهو مذموم (فاعلم أن معنى كونه شهيدا أن له رتبة بسبب موته من الخوف كان لا ينالها لو مات في ذلك الوقت، لا بسبب الخوف، فهو بالإضافة إليه فضيلة، فأما بالإضافة إلى تقدير بقائه، وطول عمره في طاعة الله، وسلوك سبيله، فليس بفضيلة) لما ورد: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله.
(بل للسالك إلى الله تعالى بطريق الفكر والمجاهدة، والترقي في درجات المعارف، في كل لحظة رتبة شهيد، وشهداء) ولذا ورد: يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء. وقال صاحب القوت: إذا جاوز الخوف الحد خرج به إلى أن يسري إلى النفس فيحرقها، فيكون له شهادة، وليس هذا بأرفع مقامات الخائفين في باب العلوم والمشاهدات عن مكاشفة تجلي الصفات، إلا أنه قد قال بعضهم: ما شهداء بدر بأعظم أجرا ممن مات وجدا، وهذه صفات ضعاف المريدين؛ إذ للعلماء الموقنين بكل شهادة من اليقين أجر شهيد، وبكل معاينة قدرة من مقتدر ليلة قدر، ومن كل قصد محجة بتعظيم عظيم حجة، وبكل عمارة قلب بحال محبة عمرة (ولولا هذا لكانت رتبة صبي يقتل أو مجنون يفترسه سبع أعلى من رتبة نبي أو ولي يموت حتف أنفه وهو محال، فلا ينبغي أن يظن هذا بل أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله) كما ورد معناه في الخبر .
(فكل ما أبطل العمر أو العقل أو الصحة التي يتعطل العمر بتعطيلها فهو خسران ونقصان، بالإضافة إلى أمور، وإن كان بعض أقسامها فضيلة، بالإضافة إلى أمور أخرى كما كانت الشهادة فضيلة، بالإضافة إلى ما دونها لا بالإضافة إلى درجة النبيين والصديقين، فإن الخوف إذا لم يؤثر في العمل فإن وجوده كعدمه مثل السوط الذي لا يزيد في حركة الدابة، وإن أثر فله درجات بحسب ظهور أثره، وإن لم يحمل إلا على العفة، وهو الكف عن مقتضى الشهوات، فله درجة، فإن أثمر الورع فهو أعلى) لعلو مرتبة الورع على العفة .
(وأقصى درجاته) أي: الخوف (أن يثمر درجات الصديقين، وهو أن) يستولي على القلب حتى (يسلب الظاهر والباطن عما سوى الله تعالى [ ص: 203 ] حتى لا يبقى لغير الله فيه متسع، فهذا أقصى ما يحمد منه) لأن الغاية المقصودة أن يموت العبد محبا لله تعالى. ولا تحصل المحبة إلا بالذكر والفكر ولا يحصلان إلا بفراغ القلب عن شواغل الدنيا، وعلائقها، ولا يكف عنها إلا الخوف، فإذا عرفت منزلته من الدين فلا تتعداها، (وذلك مع بقاء الصحة والعقل) .
وجملة القول في تفصيل هذه المخاوف أن للخوف سبع مفائض يفيض إليها من القلب، فإلى أي مفيض فاض من القلب إليه أتلف صاحبه به إلا ما يستثنى، فقد يفيض الخوف من القلب إلى المرارة فيخرقها، وهؤلاء هم الذين يموتون من الغشي، وهم ضعفاء العمال، وقد يطير الخوف من القلب إلى الدماغ فيخرق العقل فينتبه العبد فيذهب الحال، ويسقط المقام، وقد يحل الخوف الرئة فيثقبها، فيذهب الأكل والشرب حتى يسل الجسم، وينشف الدم، وهذا لأهل الجوع، والطي، والاصفرار، وقد يسكن الخوف الكبد فيورث الكمد، ويحدث الفكر الطويل، والسهر، وهذا من أفضلها، وفي هذا الخوف العلم والمشاهدة، وهو من خوف العالمين، وقد يقدح الخوف في الفرائص، وهي لحمة الكتف، ومنه يكون الاضطراب، والارتعاش، واختلاف الحركة، وقد يبدد الخوف من القلب مغشي العقل فيحمي سلطانه، كقهر سلطان القدرة محو الشمس إذا برزت ضوء القمر البادي الذي بيد، وعلى السر من خزائن الملكوت، فيضعف لحمة العقل، ويضطرب الجسم لضعفه، فلا يتمكن العبد من القرار لضعف صفته، وهؤلاء أشبه بالفضل، وأدخل في العلم، وقد سلك في هذه الطريق أفاضل أهل القلوب، وهم في التابعين كثير، منهم: nindex.php?page=showalam&ids=14355الربيع بن خثيم، nindex.php?page=showalam&ids=12338وأويس القرني، وزرارة بن أوفى، ونظراؤهم، ولم ينكر هذا عليهم الصحابة ممن عرفه مثل nindex.php?page=showalam&ids=2عمر، nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود، nindex.php?page=showalam&ids=21وحذيفة رضي الله عنهم، وقد كان nindex.php?page=showalam&ids=2عمر يغشى عليه حتى يقع ويضطرب كالبعير، وكان سعيد بن جريح من خيار الصحابة، ومن أمراء الأجناد، وكان يغشى عليه .
وقد يفيض الخوف من القلب إلى النفس فيحرق الشهوات، ويطفئ شعل الهوى، وهذا أحمد المخاوف وأعلاها، وهؤلاء أفضل الخائفين، وأرفعهم مقاما، وهو خوف النبيين، والصديقين، وخصوص الشهداء، وليس فوق هذا وصف يغبط عليه خائف، ولا يفرح به عارف، (فإن جاوز هذا) عن حد الاعتدال (إلى إزالة العقل والصحة فهو مرض يجب علاجه إن قدر عليه، ولو كان محمودا لما وجب علاجه بأسباب الرجاء، وبغيره حتى يزول) أي: إن جاوز الخوف هذه الأوصاف فقد خرج عن حده، وجاوز قدره، فحينئذ يجب معالجته بما يزيله ثم إن لم يعصم العبد من مجاوزة حد الخوف خرج به إلى أحد ثلاثة معان: خيرها أن يسري إلى النفس فيحرقها فيتلف العبد، وأوسطها أن يعلو إلى الدماغ فتنحل عقدة العقل لذوبه فتضطرب الطبائع لانحلال عقدة العقل، ثم تختلط المزاجات فيكون منه الوسواس، والهذيان، والوله، والتره، وهذا مكروه عند العلماء، وعاقبته غير محمودة، وقد أصاب ذلك بعض المحبين في مقام المحبة، فانطبق عليهم فولهوا بوجده، ومنهم من فزع ذلك من قلبه فسري عنهم فنطقوا بعلم وصفه .
(ولذلك كان) أبو محمد (سهل) التستري رحمه الله تعالى (يقول للمريدين الملازمين للجوع أياما كثيرة) من أهل عبادان: (احفظوا عقولكم) باستعمال الدسم، (فإنه لم يكن ولي الله ناقص العقل) . نقله صاحب القوت، وقد ذكر في كتاب رياضة النفس، ويؤيده ما اشتهر على لسان العامة: ما اتخذ الله وليا جاهلا، ولو اتخذه لعلمه. قال صاحب القوت: وحدثني بعض إخواني قال: كنا حول أبي الحسن بن سالم فدخل شاب عريان، فوقف على الحلقة يهذي، فزجرناه نطرده، فقال لنا الشيخ: دعوه حتى يقضي ما في نفسه، قال: وكان يتكلم بوساوس من معاني التوحيد، وبهذيان مختلط من علوم المعارف، إلى أن فتر وسكن، ثم انصرف، فقال لنا أبو الحسن: لا بارك الله في العلماء السوء، ثم قال: لم يكن في أصحابنا أحسن عقلا ولا أكثر تعبدا ولا اجتهادا من الشاب، وكنت أنهاه عن العسف بنفسه، والحمل عليها، وآمره بأكل الدسم والحلواء، فكان مستقيم الأمر ففارقنا، وذهب إلى أهل عبادان، فقالوا له: إن ابن سالم قد ركن إلى الدنيا، وترك العبادة والاجتهاد، وأمروه بالجوع الدائم، والطي، وترك الدسم والحلاوة، حتى أحرق دماغه، وزال عقله، فذهب الحال، وبطلت العبادة .
والمعنى الثالث من مذموم الخوف، وهو شرها في المجاورة، أن يعظم ويقوى فيذهب الرجاء إذا لم يواجه بعلم الأخلاق من [ ص: 204 ] الجود، والكرم، والإفضال، وقديم الإحسان، وخفي الامتنان، فهذه المعاني بها تعديل المقام من فرط الاهتمام، وترويح الحال من كروب الأثقال، فلا يساعده القدر بذلك فيخرجه وجده إلى القنوط من رحمة الله، ويعطف به همه على الإياس من روح الله، وتوقعه شهادته على الهرب من قرب الله، دخلت عليهم المشاهدة من قبل المواجهة بالإنصاف والعدل، بمعيار العقل، وإتلاف الحد، فجاوزت بهم العلم بأخلاقه المرجوة من الكرم، وخفي الألطاف، فبعدت بهم الحدود من قبل قوة نظرهم إلى الاكتساب، والحكم على الحاكم الراحم بعقولهم وعلومهم، من غير تفويض منهم إلى مشيئة ولا استسلام، فحجبوا. يدلك على صحة ما ذكرناه أن أكثر هذه كانت في البصريين، والعسكريين، وأهل عبادان، وكان مذهبهم القدر، فوقعوا في غاية الخطر والله الموفق .