فهو المبدئ المعيد والفعال لما يريد وكيف لا يكون مريدا وكل فعل صدر منه أمكن أن يصدر منه ضده وما لا ضد له أمكن أن يصدر منه ذلك بعينه قبله أو بعده .
والقدرة تناسب الضدين والوقتين مناسبة واحدة ، فلا بد من إرادة صارفة للقدرة إلى أحد المقدورين .
(فهو المبدئ المعيد والفعال لما يريد) قد تقدم تفسير هذه الألفاظ في أول هذا الكتاب، ثم أشار إلى برهانها فقال: (فكيف لا يكون مريدا وكل فعل صدر منه أمكن أن يصدر منه ضده) أي: كل صادر عنه تعالى من الممكنات في وقت من الأوقات كان من الممكن صدور ضده فيه، أي: ضد ذلك الصادر بعينه في وقت آخر (قبله) أي: قبل ذلك الوقت الذي صدر فيه (أو بعده، والقدرة تناسب الضدين والوقتين مناسبة واحدة، فلا بد من إرادة صارفة للقدرة إلى أحد المقدورين) أي: فتخصيصه بصدوره في ذلك الوقت دون ذلك الممكن الآخر، ودون ما قبل ذلك الوقت، وما بعده لا بد من كونه يصرف القدرة المناسبة للضدين والوقتين على السواء عن إيجاد ذلك الممكن في غير ذلك الوقت، أو إيجاد غيره بدله في ذلك الوقت إلى تخصيص ذلك الممكن دون غيره بذلك الوقت المخصوص، ولا نعني بالإرادة إلا ذلك المعنى المخصص، وهو صفة حقيقية قائمة بذاته توجب تخصيص المقدور دون غيره بخصوص وقت إيجاده دون ما قبله وما بعده من الأوقات، هكذا عبر به ابن الهمام في "المسايرة"، وقال السعد في شرحه على العقائد: وهما -أي: الإرادة والمشيئة- عبارتان عن صفة في الحي توجب تخصيص أحد المقدورين في أحد الأوقات بالوقوع مع استواء نسبة القدرة إلى الكل، وكون تعلق العلم تابعا للوقوع. اهـ .
قال ابن قاسم في نسخته على هامشها تحت قوله: المقدورين، ما نصه: وهما الوجود والعدم، وعبارة شيخ الإسلام في حاشيته على السعد عند قوله: أحد المقدورين أي: من الفعل والترك، بمعنى أنهما صفة واحدة تتعلق بالفعل تارة، وبالترك أخرى، ومثله في حاشية الكمال بن أبي شريف، وفي ظاهر سياقهم نوع تخالف لا يخفى .
قال الغنيمي: ويحتمل أن يكون مراد السعد بقوله: أحد المقدورين ما يصح اتصافه بالوجود، لا ما يشمل الترك، فإنه ليس بمقدور، مثلا: السواد مع البياض مقدوران، فالإرادة تخصص السواد، وهو أحد المقدورين بوقوعه في هذا المحل المخصوص في هذا الوقت دون ما قبله وما بعده، ثم قال: وينبغي ألا تفهم مما هو مصرح به في كلامهم من قولهم: إن نسبة القدرة إلى الضدين أو الأضداد متساوية بخلاف الإرادة أن المراد بالضدين ما يشمل العدم والوجود، فإن الوجود كما هو مصرح به عند أئمة الأصول لا ضد له، ولا مثل له، وقد استدلوا على ذلك بأدلة ساطعة، فلا عليك بمن نقل خلاف ذلك بمجرد نقل عبارات الأئمة مع عدم فهمها على وجهها، ثم وإياك أن تفهم أيضا من قولهم: إن نسبة القدرة إلى الضدين على السواء أن المراد خصوص الضدين، بل المراد أن نسبتها إلى جميع الممكنات على السواء، لا فرق في ذلك بين الضدين، كالسواد والبياض، والمتخالفين والمتماثلين، وإنما فرض الكلام من فرض في الضدين في مقام الاستدلال؛ فإن بينهما غاية الخلاف، فإذا ثبت أن نسبة القدرة إليهما على السواء ثبت نسبتها إلى بقية الممكنات بالطريق الأولى. اهـ .
وقال الكستلي في "شرح النسفية": اعلم أن للقدرة عند المحققين بالمقدور تعلقين: تعلق معنوي لا يترتب عليه وجود المقدور، بل يمكن القادر من إيجاده وتركه، وهذا التعلق لازم للقدرة، قديم بقدمها، ونسبته إلى الضدين على السواء، وتعلق آخر يترتب عليه وجود المقدور أو عدمه عند القائلين بأن العدم مقدور، وهو المعبر عنه بالتأثير أو التكوين والإيجاد ونحو ذلك، والأظهر أنه حادث عند حدوث المقدور، وفي كلامهم ما يشعر بأنه قديم، لكنه متعلق بوجود المقدور، لا في الأزل، بل بوقت وجوده فيما لا يزال. اهـ .
وبما أوردنا [ ص: 141 ] لك من نقول ظهر لك ما ساقه المصنف في هذا البرهان .