ولا يصح التوكل إلا مع الزهد في الدنيا ، نعم يصح الزهد دون التوكل ، فإن التوكل مقام وراء الزهد وقال أبو جعفر الحداد وهو شيخ الجنيد رحمة الله عليها ، وكان من المتوكلين : أخفيت التوكل عشرين سنة ، وما فارقت السوق ، كنت أكتسب في كل يوم دينارا ولا أبيت منه دانقا ، ولا أستريح منه إلى قيراط أدخل به الحمام ، بل أخرجه كله قبل الليل ، وكان الجنيد لا يتكلم في التوكل بحضرته ، وكان يقول أستحيي : أن أتكلم في مقامه وهو حاضر عندي .
اعلم أن المتوكل إن قنع بما تقوم به بنيته اعتمد على الله تعالى، وانقطع لعبادته، وإن لم يقنع بذلك لم تنتج معرفته حالا لأن إنتاج الأحوال مركب من علم وعمل، ولذلك ذهب جماعة من المشايخ إلى أن الزهد شرط في 7 توسلا إلى قطع وسوسة العدو؛ لأن الشيطان لا سلطان له على القلب إلا بواسطة الدنيا، وتوسلا إلى ترك، وهذا كلام ظاهر ساطع النور، لولا اختلاف الأحوال في القوة والضعف، فمن العباد من لا يتأتى له التوكل إلا بالزهد، فهو شرط في حقه، ومن العارفين والمقربين والصديقين من يتأتى له ويرتقي عنه إلى غيره، وهو يملك مثلا من المشرق إلى المغرب، ووجه آخر أن التوكل لا يتعلق بنفس الرزق وحده، بل بجملة أحوال العبد الموطنة بالدنيا، وفي الآخرة حتى الإيمان، والعلوم والمعارف، وكل نعمة لله على عبده يستحب التوكل على الله في حفظها ودوامها والازدياد منها .
وعلى الجملة فالزهد يعين على التوكل إعانة عظيمة، وإنما منعنا اشتراطه مطلقا؛ إذ الشرط عبارة عن عما لا يتأتى المشروط إلا بوجوده في كل حال، وقال صاحب القوت: الزهد من شرط خصوص التوكل، وليس التوكل من شرط عموم الزهد، فكل متوكل ذي مقام زاهد لا محالة، وليس كل زاهد ذي مقام متوكلا؛ لأن التوكل مقام في الزهد، والزهد حال، والمقامات للمقربين، والأحوال في أصحاب اليمين، إلا أنه من أعطي حقيقة الزهد فإنه يعطى التوكل لا محالة؛ لأن حقائقه الأحوال [ ص: 482 ] وثبوتها، ودوام استقامة أهلها، ولزومها لقلوبهم هي مقامات (وقال أبو جعفر) كذا في النسخ، وفي بعضها أبو حفص عمر بن مسلم، ويقال: عمرو بن مسلم (الحداد) النيسابوري، والمعروف أنه أبو حفص لا غير، (وهو شيخ الجنيد) في التصوف (رحمة الله عليهما، وكان من المتوكلين: أخفيت التوكل عشرين سنة، وما فارقت السوق، كنت أكتسب كل يوم دينارا) ، أو عشرة دراهم (ولا أبيت منه دانقا، ولا أستريح منه إلى قيراط أدخل به الحمام، بل أخرجه كله قبل) دخول (الليل، وكان الجنيد) -رحمه الله تعالى- يتأدب معه كثيرا، وكان (لا يتكلم في التوكل بحضرته، وكان يقول: أستحيي) من الله (أن أتكلم في مقامه) ، أو حاله، (وهو حاضر عندي) كذا في القوت، وبلغني أنه ترك العمل لما نظر إليه الغلام الذي كان ينفخ عليه الكير، فرآه يدخل يده في الكير، وهو يتلظى، فيخرج الحديد جمرا، ويرده إلى الكير، فغشي على الغلام، ثم حدث به الناس وكانوا يغتابونه، وينظرون إليه، فترك الصنعة، قال: وبلغني في سبب هذا أنه سئل: بأي شيء نلت هذه المنزلة أن لا تحرقك النار؟ فقال: بدعوة فاسق، فقيل: كيف هذا؟ قال: قد وجدت مع أهلي رجلا، ففزعا مني شديدا، فأخذت بأيديهما، وقلت: اخرجا بسلام، فقال لي الرجل: جعل الله عليك النار بردا وسلاما، فهذا من إجابة دعوته بستري على مسلم .
ولفظ nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري في الرسالة: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت أبا حفص الحداد يقول: مكثت بضع عشرة سنة أعتقد التوكل، وأنا أعمل في السوق، وآخذ كل يوم أجرتي، ولا أنتفع منها بشربة ماء، ولا بدخلة حمام، وكنت أجيء بأجرتي إلى الفقراء في مسجد الشونيزية، وأكون على حالتي اهـ .
وهذا مقام بالغ في التوكل؛ لأن من عرف بالكسب والاستغناء عنه بالنسبة لمن لم يعلم ذلك انصرف الناس عن مساعدته في شيء من الدنيا .