اعلم أن مثال الخلق مع الله تعالى مثل طائفة من السؤال وقفوا في ميدان على باب قصر الملك وهم محتاجون إلى الطعام فأخرج إليهم غلمانا كثيرة ومعهم أرغفة من الخبز وأمرهم أن يعطوا بعضهم رغيفين رغيفين وبعضهم رغيفا رغيفا ويجتهدوا في أن لا يغفلوا عن واحد منهم وأمر مناديا حتى نادى فيهم أن اسكنوا ولا تتعلقوا بغلماني إذا خرجوا إليكم ، بل ينبغي أن يطمئن كل واحد منكم في موضعه ، فإن الغلمان مسخرون ، وهم مأمورون بأن يوصلوا إليكم طعامكم ، فمن تعلق بالغلمان ، وآذاهم وأخذ رغيفين فإذا فتح باب الميدان وخرج أتبعته بغلام يكون موكلا به إلى أن أتقدم لعقوبته في ميعاد معلوم عندي ، ولكن أخفيه ومن لم يؤذ الغلمان وقنع برغيف واحد أتاه من يد الغلام وهو ساكن فإني أختصه بخلعة سنية في الميعاد المذكور لعقوبة الآخر ومن ثبت في مكانه ، ولكنه أخذ رغيفين فلا عقوبة عليه ، ولا خلعة له ومن أخطأه غلماني فما أوصلوا إليه شيئا ، فبات الليلة جائعا غير متسخط للغلمان ، ولا قائلا ليته أوصل إلي رغيفا فإني غدا أستوزره : وأفوض ملكي إليه ، فانقسم السؤال إلى أربعة أقسام : قسم غلبت عليهم بطونهم فلم يلتفتوا إلى العقوبة الموعودة وقالوا : من اليوم إلى غد فرج ونحن الآن جائعون فبادروا ، إلى الغلمان فآذوهم ، وأخذوا الرغيفين ، فسبقت العقوبة إليهم في الميعاد المذكور فندموا ولم ينفعهم الندم ، وقسم تركوا التعلق بالغلمان خوف العقوبة ولكن أخذوا رغيفين لغلبة الجوع فسلموا من العقوبة وما فازوا بالخلعة وقسم قالوا : إنا نجلس بمرأى من الغلمان ، حتى لا يخطئونا ، ولكن نأخذ إذا أعطونا رغيفا واحدا ونقنع ، به ، فلعلنا نفوز بالخلعة ففازوا بالخلعة . وقسم رابع : اختفوا في زوايا الميدان ، وانحرفوا عن مرأى أعين الغلمان ، وقالوا : إن اتبعونا وأعطونا قنعنا برغيف واحد ، وإن أخطؤونا قاسينا شدة الجوع الليلة ، فلعلنا نقوى على ترك التسخط ، فننال رتبة الوزارة ، ودرجة القرب عند الملك فما نفعهم ذلك إذا تبعهم الغلمان في كل زاوية وأعطوا كل واحد رغيفا واحدا ، وجرى مثل ذلك أياما حتى اتفق على الندور أن اختفى ثلاثة في زاوية ولم تقع عليهم أبصار الغلمان وشغلهم شغل صارف عن طول التفتيش فباتوا في جوع شديد ، فقال اثنان منهم : ليتنا تعرضنا للغلمان ، وأخذنا طعامنا فلسنا نطيق الصبر وسكت الثالث إلى الصباح ، فنال درجة القرب والوزارة فهذا مثال الخلق والميدان هو الحياة في الدنيا وباب الميدان الموت والميعاد المجهول يوم القيامة والوعد بالوزارة هو الوعد بالشهادة للمتوكل إذا مات جائعا راضيا من غير تأخير ذلك إلى ميعاد القيامة ؛ لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون والمتعلق بالغلمان هو المتعدي في الأسباب والغلمان المسخرون هم الأسباب والجالس في ظاهر الميدان بمرأى الغلمان هم المقيمون في الأمصار في الرباطات والمساجد على هيئة السكون ، والمختفون في الزوايا هم السائحون في البوادي على هيئة التوكل والأسباب تتبعهم والرزق يأتيهم إلا على سبيل الندور فإن مات واحد منهم جائعا راضيا فله الشهادة والقرب من الله تعالى ، وقد انقسم الخلق إلى هذه الأقسام الأربعة ، ولعل من كل مائة تعلق بالأسباب تسعون وأقام سبعة من العشرة الباقية في الأمصار متعرضين للسبب بمجرد حضورهم ، واشتهارهم ، وساح في البوادي ثلاثة وتسخط ، منهم اثنان ، وفاز بالقرب واحد ، ولعله كان كذلك في الأعصار السالفة ، وأما الآن فالتارك للأسباب لا ينتهي إلى واحد من عشرة آلاف .
(اعلم) هداك الله تعالى (أن مثال الخلق مع الله تعالى مثال طائفة من السؤال) جمع سائل (وقفوا في ميدان) موضع واسع مشرف (على باب قصر الملك) ينظر منه إليهم (وهم محتاجون إلى الطعام) ما يأكلونه، فأشفق الملك عليهم (فأخرج إليهم غلمانا كثيرة) من عنده (ومعهم أرغفة كثيرة من الخبز) برسمهم (وأمرهم أن يعطوا بعضهم رغيفين وبعضهم رغيفا رغيفا ويجتهدوا في أن لا يغفلوا عن واحد منهم وأمر مناديا حتى نادى فيهم أن اسكنوا) ولا تقلقوا (ولا تتعلقوا بغلماني إذا خرجوا إليكم، بل ينبغي أن يطمئن كل واحد منكم في موضعه، فإن الغلمان مسخرون، وهم مأمورون بأن يوصلوا إليكم طعاما، فمن تعلق بالغلمان، وآذاهم وأخذ رغيفين فإذا، فتح باب الميدان وخرج) منه (أتبعته بغلام يكون موكلا به إلى أن أتقدم لعقوبته في ميعاد معلوم عندي، ولكن أخفيه) عنكم (ومن لم يؤذ الغلمان وقنع برغيف واحد) الذي أتاه من يد الغلام، وهو ساكن غير مضطرب (فإني أختصه بخلعة سنية في الميعاد المذكور لعقوبة الآخر ومن ثبت في مكانه، ولكنه أخذ رغيفين فلا عقوبة عليه، ولا خلعة له) في الميعاد المذكور (ومن أخطأه غلماني فما أوصلوا إليه شيئا، فبات) تلك (الليلة جائعا غير متسخط على الغلمان، ولا قائل ليته أوصل إلي) رغيفا (فإني غدا أستوزره) أي: أتخذه وزيرا (وأفوض ملكي إليه، فانقسم السؤال إلى أربعة أقسام: قسم غلبت عليهم بطونهم) فظهر منهم شرههم إلى الطعام (فلم يلتفتوا إلى العقوبة الموعودة) اختيارا منهم للحظ العاجل (وقالوا: من اليوم إلى غد فرج) والحكم للظاهر في الحال (ونحن الآن جائعون، وبادروا إلى الغلمان) وتعلقوا بهم (فآذوهم، وأخذوا) منهم (الرغيفين، فسبقت العقوبة إليهم في الميعاد المذكور فندموا) عند معاينة العقوبة (ولم ينفعهم الندم، وقسم) آخر منهم (تركوا التعلق بالغلمان) وآذاهم (خوف العقوبة) في الميعاد (ولكن أخذوا رغيفين لغلبة الجوع فسلموا من العقوبة) لعدم تعلقهم بهم (وما فازوا بالخلعة) لاضطرابهم .
(وقسم) ثالث منهم (قالوا: إنا نجلس بمرأى من الغلمان، حتى لا يخطئونا، ولكن نأخذ إذا أعطونا رغيفا واحدا، ونقتنع به، فلعلنا نفوز بالخلعة ففازوا بالخلعة .
وقسم رابع: اختفوا في زوايا بالميدان، وانحرفوا عن مرأى أعين الغلمان، وقالوا: إن اتبعونا وأعطونا قنعنا برغيف واحد، وإن أخطؤونا) ولم يقع بصرهم علينا (قاسينا شدة الجوع الليلة، فلعلنا نقوى على [ ص: 500 ] ترك التسخط، فننال رتبة الوزارة، ودرجة القرب عند الملك) فهؤلاء نظروا إلى الآجل (فما نفعهم ذلك إذا تبعهم) وفي نسخة: إذا تبعتهم (الغلمان في كل زاوية) من زوايا الميدان (وأعطوا كل واحد رغيفا واحدا، وجرى مثل ذلك أياما حتى اتفق على الندور) والقلة (إن اختفى ثلاثة) منهم (في زاوية ولم تقع عليهم أبصار الغلمان وشغلهم شغل صارف عن طول التفتيش) والبحث والتمتع (فباتوا في جوع شديد، فقال اثنان منهم: ليتنا تعرضنا للغلمان، وأخذنا طعامنا) فأكلناه (فلسنا نطيق الصبر) على الجوع الشديد (وسكت ثالث إلى الصباح، فنال درجة القرب والوزارة) إذ وفى بشرط الملك (فهذا مثال الخلق) على تباينهم (فالميدان هو الحياة الدنيا) لسعتها، (وباب الميدان الموت) ، كما قال الشاعر:
الموت باب وكل الناس داخله والقبر بيت وكل الناس ساكنه
(والميعاد المجهول يوم القامة) لقوله تعالى: قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون (والوعد بالوزارة هو الوعد بالشهادة للمتوكل إذا مات جائعا راضيا) من غير كراهة (من غير تأخير ذلك إلى معاد القيامة؛ لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ) بنص الآية، وقرب الدرجة معلوم من قوله عند ربهم، (والمتعلق بالغلمان هو المتعدي في الأسباب) الظاهرة (والغلمان المسخرون هم الأسباب) ، كما أن الغلمان من أرقاء الملك، قد سخرهم لخدمته كذلك الأسباب من خلق الله تعالى، سخرها للناس لينتفعوا بها (والجالس في ظاهر الميدان بمرأى للغلمان هم المقيمون في الأمصار في الرباطات والمساجد على هيئة السكون، والمختفون في الزوايا هم السائحون في البوادي) على هيئة التوكل والتجريد (والأسباب وتتبعهم والرزق يأتيهم) من حيث لا يحتسبون (إلا على سبيل الندور) والقلة (فإن مات واحد منهم جائعا راضيا فله الشهادة والقرب من الله تعالى، وقد انقسم الخلق إلى هذه الأقسام الأربعة، ولعل من كل مائة) منهم (تعلق بالأسباب تسعون وأقام سبعة من العشرة الباقية من الأمصار متعرضين للسبب بمجرد حضورهم، واشتهارهم، وساح في البوادي ثلاثة، فسخط منهم اثنان، وفاز بالقرب واحد، ولعله كذلك في الأعصار السالفة، وأما الآن فالتارك للأسباب لا ينتهي إلى واحد من عشرة آلاف، والله المستعان) .