الرابع أنه إذا وجد المال مسروقا ، فينبغي أن لا يحزن بل يفرح إن أمكنه ، ويقول : لولا أن الخيرة كانت فيه لما سلبه الله تعالى ثم إن لم يكن قد جعله في سبيل الله : عز وجل : فلا يبالغ في طلبه ، وفي إساءة الظن بالمسلمين ، وإن كان قد جعله في سبيل الله ، فيترك طلبه ، فإنه قد قدمه ذخيرة لنفسه إلى الآخرة ، فإن أعيد عليه فالأولى أن لا يقبله بعد أن كان قد جعله في سبيل الله : عز وجل : وإن قبله فهو في ملكه في ظاهر العلم ؛ لأن الملك لا يزول بمجرد تلك النية ، ولكنه غير محبوب عند المتوكلين .
وقد روي أن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر سرقت ناقته فطلبها حتى أعيا ، ثم قال في سبيل الله تعالى ، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين فجاءه ، رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن إن ناقتك في مكان كذا ، فلبس نعله وقام ، ثم قال : أستغفر الله ، وجلس ، فقيل له : ألا تذهب فتأخذها ، فقال : إني كنت قلت في سبيل الله .
وقال بعض الشيوخ رأيت بعض إخواني في النوم بعد موته ، فقلت ما فعل الله بك قال : غفر لي ، وأدخلني الجنة ، وعرض علي منازلي فيها ، فرأيتها قال : وهو مع ذلك كئيب حزين ، فقلت : قد غفر لك ودخلت الجنة ، وأنت حزين ، فتنفس الصعداء ثم قال : نعم إني لا أزال حزينا إلى يوم القيامة ، قلت : ولم قال : إني لما رأيت منازلي في الجنة رفعت لي مقامات في عليين ، ما رأيت مثلها فيما رأيت ، ففرحت بها ، فلما هممت بدخولها نادى مناد من فوقها اصرفوه عنها ، فليست هذه له ، إنما هي لمن أمضى السبيل ، فقلت : وما إمضاء السبيل فقيل ؟ لي : كنت تقول للشيء إنه في سبيل الله ، ثم ترجع فيه ، فلو كنت أمضيت السبيل لأمضينا لك .
وحكي عن بعض العباد بمكة أنه كان نائما إلى جنب رجل معه هميانه فانتبه الرجل ، ففقد هميانه ، فاتهمه به فقال له : كم كان في هميانك ؟ فذكر له فحمله من البيت ، ووزنه من عنده ، ثم بعد ذلك أعلمه أصحابه أنهم كانوا أخذوا الهميان مزحا معه ، فجاء هو وأصحابه معه ، وردوا الذهب فأبى وقال خذه : حلالا طيبا ، فما كنت لأعود في مال أخرجته في سبيل الله : عز وجل : فلم يقبل فألحوا عليه ، فدعا ابنه ، وجعل يصره صررا ويبعث به إلى الفقراء ، حتى لم يبق منه شيء .
فهكذا كانت أخلاق السلف وكذلك من أخذ رغيفا ليعطيه فقيرا ، فغاب عنه كان يكره رده إلى البيت بعد إخراجه فيعطيه فقيرا آخر ، وكذلك يفعل في الدراهم والدنانير ، وسائر الصدقات .
(الرابع أنه إذا وجد المال مسروقا، فينبغي أن لا يحزن) عليه، (بل يفرح إن أمكنه، ويقول: لولا أن الخيرة كانت فيه لما سلبه الله تعالى) لعلمه بأن الوكيل أعلم بالمصلحة، وفي القوت: ولا ينبغي للمتوكل الموقن أن يحزنه ما حوله من قبضته وهي خزانته إلى خزانته الأخرى، التي هي يد غيره، فما لعلمه يهبه له فيكون رزقه، أو يبتليه بأحكامه فيه فيخرج أيضا من يده؛ لأنه خرج من الدار شيء، ولله حكمة وابتلاء في كل شيء، فالحزن والأسف على فوت مثل هذا عند العارفين جناية من المؤمنين يتوبون إلى الله تعالى منها؛ لأنه تعالى قد أمرهم بترك الأسى على ما فات من الدنيا، وقلة الفرح بما أتاه منها؛ إذ لا بد في كونها لأنه قد علمه، وبعد علمه قد كتبه، ثم أعلم به فكشف لهم اليقين عن الكتاب المستبين؛ لأن جميع ذلك قد سبق في كتاب، وجرى به القلم في اللوح، أفلا يستحيي العبد أن يكون على ضد ما أمر به، أو بخلاف ما يحبه منه مولاه، فيأسى على ما ليس له، ويحزن على ما استودعه لما منه استرجعه، أو يفرح بما لم يكن في علم الله سبق له؛ لأنه لم يكن يعلم هل كان وهب له فيبقى عليه، أو أعيره وأودعه فيرتجع منه، فلما أخذ من يده ورد إلى معطيه ومودعه، وكانت يده مع ذلك خزانة الوكيل وقبضته أيقن أنه لم يكن له، وإنما كان وديعة عنده، فإذا حزن وساء فقد شك لما أيقن وجهل؛ إذ علم ورغب .
وكان ينبغي أن يكون زهد، فأي شرك في الملك أظهر من هذا، فهو ثمرة التملك للاختيار بالتمليك، ولو سمع ما علم من قوله: ولم يكن له شريك في الملك ، ثم ردوا إلى مولاهم الحق لقال تحقيقا لا تصديقا: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأيقن أن ما في يده لمولاه، إذ العبد وماله لسيده، ثم أيقن أنه إليه راجع، وأن ما خرج من يده فإنه في قبضة الله لم يخرج من خزانته، ولا نقل من ملكه، ولا حول من داره؛ لأنه في الدار بعد لم يخرج، وإنما نقله من تمليك أدنى اليوم إلى ملك أعلى غد وذلك حسن اختيار من المختار، وبلوى اختبار من الجبار، فهذه شهادة الموقنين بعين اليقين، وهو مقام الشاهدين .
ثم قال: وهذا الذي ذكرناه من ذهاب ما في البيت هو لكل من ذهب له مال في سفر أو حضر، ولكل من أصيب بمصيبة في نفس أو أهل، هذه المعاملات كلها إذا اعتقدها بقلبه وكانت في خلده ووجده وإن لم ينطق بها أو يظهرها، وهو وجد الراضين وحال المتوكلين، وإن لم يتكلموا به أو يعلم منهم فأكثر الناس إيمانا وأحسنهم يقينا أقلهم غما وأيسرهم أسى على ما فات من الدنيا، وأنفذهم شهادة من رأى ذلك نعمة أوجبت عليه شكرا، فالمصائب محنة تكشف الزهد في الدنيا، وشدة الغم على فوت الدنيا دليل على حبها، فإن وجد المتوكل رحله بحاله، أو رد عليه بعد أخذه لم يضره تبقيته شيئا، وكان له أجور بما ذكرناه من الأعمال الصالحة بالنيات التي وصفناها، ولا أعلم هذا القول، واعتقاده عند خروجه من منزله، أو تركه لرحله، أو خروجه في سفر ينقصه شيئا، ولا يضره، ولا يقدم ضياع شيء حكم الله تعالى ببقائه له، ولا يدخر تلك العقد لهذا تبقية ما حكم الله بذهابه، ومع ذلك فيكون له حال من التوكل، ومقام في الرضا وحسن المعاملات .
(ثم إن لم يكن قد جعله في سبيل الله -عز وجل- فلا يبالغ في طلبه، وفي إساءة الظن بالمسلمين، وإن كان قد جعله في سبيل الله، فيترك طلبه، فإنه قد قدمه ذخيرة لنفسه إلى الآخرة، فإن أعيد عليه فالأولى أن لا يقبله بعد أن كان قد جعله في سبيل الله -عز وجل- وإن قبله فهو في ملكه في ظاهر) فتوى (العلم؛ لأن الملك لا يزول بمجرد النية، ولكنه غير محجوب عند المتوكلين) .
ولفظ القوت بعد قوله: ومع ذلك فيكون له حال من التوكل، ومقام في الرضا وحسن المعاملات إلا شيئا واحدا من باب نقصان الدنيا، وهو من طريق الورع فإنه ينقصه، وهو أنه إن أخذ ما توكل الله فيه، فرد الأمر به إليه، ثم رد عليه لم يستحب له في الورع أن يتملكه، ولا أن يرجع فيه في حسن الأدب؛ لأنه قد كان جعله في سبيل الله، فإن رجع فيه لم ينقص ذلك توكله؛ لأنه قد صح تفويضه إلى الوكيلين في الحالين جميعا، فيكون رده إياه عليه؛ لأنه كان قد وهبه له، وإنما روعه بفقده وبمنزلة ابتداء إعطاء منه، (وقد روي أن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر) -رضي الله عنه- (سرقت له ناقة فطلبها حتى أعيا، ثم قال) هي (في سبيل الله، فدخل المسجد [ ص: 513 ] فصلى فيه ركعتين، فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن) وهي كنية ابن عمر (إن ناقتك في مكان كذا، فلبس نعله، وأقام) يسيرا، (ثم) نزعها، و (قال: أستغفر الله، وجلس، فقيل له: ألا تذهب فتأخذها، فقال: إني) قد (كنت قلت في سبيل الله) كذا في القوت (وقال بعض الشيوخ) من الصوفية: (رأيت بعض إخواني في النوم بعد موته، فقلت) له: (ما فعل الله بك، فقال: غفر لي، وأدخلني الجنة، وعرض علي منازلي فيها، فرأيتها فقال: وهو مع ذلك كئيب حزين، فقلت: قد دخلت الجنة، وغفر لك وأنت حزين، فتنفس الصعداء، فقال: نعم إني لا أزال حزينا إلى يوم القيامة، قلت: ولم) ذلك؟ (قال: إني لما رأيت منازلي في الجنة رفعت لي مقامات في عليين، ما رأيت مثلها فيما رأيت، ففرحت بها، فلما هممت بدخولها نادى مناد من فوقها اصرفوه عنها، فليست هذه له، إنما هي لمن أمضى السبيل، فقلت: وما إمضاء السبيل؟ فقال لي: كنت تقول للشيء إنه في سبيل الله، ثم ترجع فيه، فلو كنت أمضيت السبيل لأمضينا) ها (لك) كذا في القوت .
(وحكي عن بعض العباد بمكة أنه كان نائما إلى جنب رجل) من الحجاج (معه هميانه) بالكسر كيس يجعل فيه المال، (فانتبه الرجل، ففقد هميانه، فاتهمه به فقال له: كم كان في هميانك؟ فذكر له فحمله إلى البيت، ووزنه من عنده، ثم بعد ذلك أعلمه أصحابه أنهم كانوا أخذوا الهميان مزحا معه) ، أي: فعلوا ذلك معه، وحلوا هميانه، وهو نائم بطريق المزاح واللعب، (فجاء هو وأصحابه، وردوا) إليه (الذهب فأبى) أن يأخذ منهم، (وقال: خذوه حلالا طيبا، فما كنت لأعود في مال أخرجته في سبيل الله -عز وجل- فلم يقبل فألحوا عليه، فدعا ابنا له، وجعل يصره صررا ويبعث بها إلى الفقراء، حتى لم يبق منه شيء، فهكذا كانت أخلاق السلف) .
وفي القوت: فهذا كانت نية إخراجه لله سبحانه، فلم يعد فيما أخرجه، (وكذلك) تقول (فيمن أخذ رغيفا ليعطيه فقيرا، فغاب عنه) ولم يصادفه (كان يكره رده إلى البيت بعد إخراجه) لله تعالى، (فيعطي فقيرا آخر، وكذلك يفعل في الدراهم والدنانير، وسائر الصدقات) قال صاحب القوت: وقد كان من كان بهذا الوصف، وهذا طريق قد عفا أثره، ودرس خبره فمن عمل به فقد أحياه وأظهره، وقد كان قديما طريقا إلى الله تعالى عليه السابلة من المؤمنين .