اعلم أن المطلب من هذا الفصل لا ينكشف إلا بمعرفة حقيقة المحبة في نفسها ثم معرفة شروطها وأسبابها ثم النظر بعد ذلك في تحقيق معناها في حق الله تعالى ، فأول ما ينبغي أن يتحقق أنه لا يتصور محبة إلا بعد معرفة وإدراك ؛ إذ لا يحب الإنسان إلا ما يعرفه ولذلك لم يتصور أن يتصف بالحب جماد ، بل هو من خاصية الحي المدرك .
(اعلم) هداك الله تعالى (أن المطلب من هذا الفصل لا ينكشف إلا بمعرفة حقيقة المحبة في نفسها ثم معرفة شروطها وأسبابها) الجالبة لها، (ثم النظر بعد ذلك في تحقيق معناها في حق الله تعالى، فأول ما ينبغي أن) يعلم أن هذه المادة تدور على خمسة أشياء، أحدها الصفاء والبياض، ومنه قيل: حبب الأسنان لبياضها ونضارتها، الثاني العلو والظهور، ومنه حبب الماء وحبابه، وهو ما يعلوه من النفاحات عند المطر، وحبب الكأس منه، الثالث: اللزوم [ ص: 551 ] والثبات، ومنه حبب البعير وأحب إذا برك فلم يقم . الرابع: اللباب والخلوص، ومنه حبة القلب للبه وداخله، ومنه الحبة لواحدة الحبوب; إذ هي أصل الشيء ومادته وقوامه . الخامس الحفظ والإمساك، ومنه حب الماء الذي يحفظه فيه ويمسكه، وفيه معنى الثبوت أيضا، لا ريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة، فإنها صفاء المودة وهيجان إرادة القلب وعلوها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزوما لا يفارق، ولإعطاء المحب محبوبه لبه وأشرف ما عنده، وهو قلبه ولاجتماع عزماته وإرادته وهمومه على محبوبه فاجتمعت فيها المعاني الخمسة، ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للشيء غاية المناسبة: الحاء التي هي من أقصى الحلق والباء للشفة التي هي نهاية، فللحاء الابتداء وللباء الانتهاء، وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منه وانتهاءها إليه، وأعطوا الحب حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها مطابقة لشدة حركة مسماه وقوتها، وأعطوا الحب وهو المحبوب حركة الكسر، وذلك لخفة ذكر المحبوب على قلوبهم وألسنتهم مع إعطائه حكم نظائره كنهد وذبح للمنهود والمذبوح، فتأمل هذه المطابقة والمناسبة العجيبة بين اللفظ والمعنى يطلعك على قدر هذه اللغة الشريفة، وإن لها لشأنا ليس كسائر اللغات، ثم ينبغي بعد معرفة ذلك أن (يتحقق أنه لا يتصور محبة إلا بعد معرفة وإدراك; إذ لا يحب الإنسان إلا ما يعرفه) ، وما لا يعرفه كيف يحبه، (ولذلك لم يتصور أن يتصف بالحب جماد، بل هو من خاصية الحي المدرك) هذا قول الأكثرين، وكان سمنون يقدم المحبة على المعرفة، كما نقله nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري، أي: لكمال شغل العارف بمعروفه واستغراقه في مناجاته حتى يفنى عن نفسه، والمحبون تبقى معهم بقايا يتنعمون فيها بمحبوبهم، وكل من القولين صحيح باعتبار التوجيهين، وقد أشار nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري إلى ترجيح قول سمنون حيث قال: وعند محققهم المحبة استهلاك في لذة والمعرفة شهود في حيرة وفناء في هيبة فتأمل .