اعلم أن من قال ليس فيما يخالف الهوى ، وأنواع البلاء إلا الصبر ، فأما الرضا فلا يتصور ، فإنما أتى من ناحية إنكار المحبة فأما إذا ثبت تصور الحب لله تعالى واستغراق الهم به ، فلا يخفى أن الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب ويكون ذلك من وجهين .
أحدهما أن يبطل الإحساس بالألم ، حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس ، وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمها .
ومثاله : الرجل المحارب ، فإنه في حال غضبه أو في حال خوفه قد تصيبه جراحة ، وهو لا يحس ، بألم ذلك لشغل قلبه .
بل الذي يحجم ، أو يحلق رأسه بحديدة كآلة يتألم به فإن كان مشغول القلب بمهم من مهماته فرغ المزين والحجام وهو لا يشعر به .
وكل ذلك لأن القلب إذا صار مستغرقا بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما عداه ، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه ، أو بحبه ، قد يصيبه ما كان يتألم به ، أو يغتم له لولا عشقه ، ثم لا يدرك غمه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه .
هذا إذا أصابه من غير حبيبه ، فكيف إذا أصابه من حبيبه ؟! وشغل القلب بالحب والعشق من أعظم الشواغل ، وإذا تصور هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف تصور في الألم العظيم بالحب العظيم ، فإن الحب أيضا يتصور تضاعفه في القوة ، كما يتصور تضاعف الألم ، وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسة البصر ، فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة وجمال حضرة الربوبية وجلالها لا يقاس به جمال ولا جلال ، فمن ينكشف له شيء منه فقد يبهره بحيث يدهش ويغشى عليه فلا يحس بما يجري عليه .
فقد روي أن امرأة فتح الموصلي عثرت فانقطع ظفرها فضحكت ، فقيل لها : أما تجدين الوجع ؟ فقالت : إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه .
وكان سهل رحمه الله تعالى به علة يعالج غيره منها ، ولا يعالج نفسه ، فقيل له في ذلك فقال : يا دوست ضرب الحبيب لا يوجع .
وأما الوجه الثاني : فهو أن يحس به ويدرك ألمه ولكن يكون راضيا به بل راغبا فيه ، مريدا له ، أعني بعقله ، وإن كان كارها بطبعه كالذي يلتمس من الفصاد الفصد والحجامة ، فإنه يدرك ألم ذلك إلا أنه راض به ، وراغب فيه ، ومتقلد من الفصاد به منة بفعله فهذا حال الراضي بما يجري عليه من الألم .
وكذلك كل من يسافر في طلب الربح يدرك مشقة السفر ولكن حبه لثمرة سفره طيب عنده مشقة السفر وجعله راضيا بها .
ومهما أصابه بلية من الله تعالى ، وكان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته رضي به ورغب فيه ، وأحبه وشكر الله عليه ، هذا إن كان يلاحظ الثواب والإحسان الذي يجازى به عليه ، ويجوز أن يغلب الحب بحيث يكون حظ المحب في مراد محبوبه ورضاه لا لمعنى آخر وراءه ، فيكون مراد حبيبه ورضاه محبوبا عنده ومطلوبا ، وكل ذلك موجود في المشاهدات في حب الخلق ، وقد تواصفها المتواصفون في نظمهم ونثرهم ولا معنى له إلا ملاحظة جمال الصورة الظاهرة بالبصر ، فإن نظر إلى الجمال فما هو إلا جلد ولحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث بدايته من نطفة مذرة ونهايته جيفة قذرة وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة .
وإن نظر إلى المدرك للجمال فهي العين الخسيسة التي تغلط فيما ترى كثيرا فترى الصغير كبيرا ، والكبير صغيرا ، والبعيد قريبا ، والقبيح جميلا فإذا تصور استيلاء هذا الحب ؛ فمن أين يستحيل ذلك في حب الجمال الأزلي الأبدي الذي لا منتهى لكماله ، المدرك بعين البصيرة التي لا يعتريها الغلط ولا يدور بها الموت بل تبقى بعد الموت حية عند الله ، فرحة برزق الله تعالى مستفيدة بالموت مزيد تنبيه واستكشاف ، فهذا أمر واضح من حيث النظر بعين الاعتبار ويشهد لذلك الوجود حكايات أحوال المحبين وأقوالهم .
فقد قال nindex.php?page=showalam&ids=16113شقيق البلخي من يرى ثواب الشدة لا يشتهي المخرج منها ، وقال الجنيد سألت سريا السقطي هل يجد المحب ألم البلاء ؟ قال : لا . قلت وإن : ضرب بالسيف ؟ قال : نعم ، وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة ضربة على ضربة .
وقال بعضهم : أحببت كل شيء يحبه ، حتى لو أحب النار أحببت دخول النار وقال بشر بن الحارث مررت برجل وقد ضرب ألف سوط في شرقية بغداد ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس فتبعته ، فقلت له : لم ضربت ؟ فقال : لأني عاشق . فقلت له ولم : سكت ؟ قال : لأن معشوقي كان بحذائي ينظر إلي فقلت فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر قال فزعق زعقة خر ميتا .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=17335يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى : إذا نظر أهل الجنة إلى الله تعالى ذهبت عيونهم في قلوبهم من لذة النظر إلى الله تعالى ثمانمائة سنة لا ترجع إليهم . فما ظنك بقلوب وقعت بين جماله وجلاله إذا لاحظت جلاله هابت ، وإذا لاحظت جماله تاهت . وقال بشر قصدت عبادان في بدايتي فإذا برجل أعمى مجذوم مجنون قد صرع والنمل يأكل لحمه ، فرفعت رأسه فوضعته في حجري وأنا أردد الكلام فلما أفاق قال : من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربي ؟! لو قطعني إربا إربا ما ازددت له إلا حبا . قال بشر : فما رأيت بعد ذلك نقمة بين عبد وبين ربه فأنكرتها .
وقال أبو عمرو محمد بن الأشعث إن أهل مصر مكثوا أربعة أشهر لم يكن لهم غذاء إلا النظر إلى وجه يوسف الصديق عليه السلام كانوا إذا جاعوا نظروا إلى وجهه ، فشغلهم جماله عن الإحساس بألم الجوع ، بل في القرآن ما هو أبلغ من ذلك ، وهو قطع النسوة أيديهن لاستهتارهن بملاحظة جماله حتى ما أحسسن بذلك .
وقال سعيد بن يحيى رأيت بالبصرة في خان عطاء بن مسلم شابا وفي يده مدية ، وهو ينادي بأعلى صوته والناس حوله ، وهو يقول :
يوم الفراق من القيامة أطول والموت من ألم التفرق أجمل قالوا الرحيل فقلت لست براحل لكن مهجتي التي تترحل
ثم بقر بالمدية بطنه وخر ميتا ، فسألت عنه وعن أمره ، فقيل لي : إنه كان يهوى فتى لبعض الملوك حجب عنه يوما واحدا .
ويروى أن يونس عليه السلام قال لجبريل : دلني على أعبد أهل الأرض . فدله على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه وذهب ببصره ، فسمعه وهو يقول : إلهي متعتني بهما ما شئت أنت ، وسلبتني ما شئت أنت ، وأبقيت لي فيك الأمل ، يا بر يا وصول .
ويروى عن nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أنه اشتكى له ابن فاشتد وجده عليه حتى قال بعض القوم : لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث فمات الغلام ، فخرج nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر في جنازته ، وما رجل أشد سرورا أبدا منه ، فقيل له في ذلك فقال ابن عمر : إنما كان حزني رحمة له ، فلما وقع أمر الله رضينا به .
وقال مسروق كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك ؛ فالديك يوقظهم للصلاة ، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم ، والكلب يحرسهم قال فجاء الثعلب فأخذ الديك فحزنوا له ، وكان الرجل صالحا فقال : عسى أن يكون خيرا . ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار فقتله ، فحزنوا عليه ، فقال الرجل : عسى أن يكون خيرا . ثم أصيب الكلب بعد ذلك ، فقال : عسى أن يكون خيرا . ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا ، فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم قال : وإنما أخذوا أولئك لما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة ، فكانت الخيرة لهؤلاء في هلاك هذه الحيوانات ، كما قدره الله تعالى .
(اعلم) بصرك الله تعالى (أن من قال) من البطالين: (ليس فيما يخالف الهوى، وأنواع البلاء إلا الصبر، فأما الرضا فلا يتضرر، فإنما أتى) فيما توهمه (من ناحية إنكار المحبة) ، وقد تقدم بيان مذهبه والاحتجاج عليه، (فأما إذا [ ص: 655 ] ثبت) مما ذكرناه (تصور الحب لله تعالى واستغراق الهم به، فلا يخفى أن الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب) ؛ إذ هو غاية الحب (ويكون) تصوير (ذلك من وجهين؛ أحدهما) أعلى من الثاني، فالأعلى الذي لا يتصور وقوعه إلا بعد كمال المحبة: (أن يبطل الإحساس بالألم، حتى يجري على المؤلم ولا يحس، وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمها) ، وهذا غايته التي وصل إليها، وهذا موجود في الأحوال المعتادة من الصفات البشرية؛ لأن حكمة الله في الصفات البشرية، أي قوة غلبته حكمته في سائر القوى (ومثاله: الرجل المحارب، فإنه في حال غضبه) ، وقد تقوى القوة الغضبية (أو في حال خوفه) ، وقد تقوت أماراته (قد تصيبه جراحة، وهو لا يحس بها) ولا يدرك لها ألما (حتى إذا رأى الدم) بارزا من موضع الجراحة (استدل بها على الجراحة، بل الذي يغدو في شغل قريب قد تصيبه شوكة في قدمه ولا يحس بألم ذلك لشغل قلبه) بما هو فيه (بل الذي يحجم، أو يحلق رأسه بحديدة كالة) ، أي: باردة الحد (يتألم به) لا محالة (فإن كان مشغول القلب بمهم من مهماته فرغ المزين) من حلاقته (والحجام) عن حجامته (وهو لا يشعر به) ولهذا أمثلة كثيرة، وفيما ذكره المصنف كفاية، (وكل ذلك) ؛ لأن (القلب إذا صار مستغرقا بأمر من الأمور مستوفى به) آخذا بكليته (لم يدرك ما عداه، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه، أو بحبه، قد يصيبه ما كان يتألم به، أو يغتم له لولا عشقه، ثم لا يدرك همه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه، هذا إذا أصابه من غير حبيبه، فكيف إذا أصابه من حبيبه؟! وشغل القلب بالحب والعشق من أعظم الشواغل، وإذا تصور هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف تصور في الألم العظيم بالحب العظيم، فإن الحب أيضا يتصور تضاعفه في القوة، كما يتصور تضاعف الألم، وكما يقوى حب الصور الجميلة) الظاهرة (المدركة بحاسة البصر، فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة) هذا ظاهر (وجمال حضرة الربوبية وجلالها لا يقاس به جمال ولا جلال، فمن ينكشف له شيء منه فقد يبهره بحيث يدهش) عن عقله (ويغشى عليه فلا يحس بما يجري عليه) ؛ لأن الالتذاذ به يذهب الإحساس (فقد روي أن امرأة فتح) بن شخرف (الموصلي) وكانت من المحبين (عثرت) برجلها (فانقلع ظفرها فضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه) نقله صاحب القوت .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في الشعب، عن أبي عثمان الخياط قال: سمعت السري يقول: سمعت فضيلا يقول: توجعت ابنة له فعادها فقال لها: يا بنية، كيف كفك هذه؟ فقالت له: يا أبت، إن الله قد بسط لي من ثوابها ما لا أؤدي شكره عليه أبدا. فتعجبت من حسن يقينها. قال الفضيل: فأنا عندها قاعد إذ أتاني ابن له ثلاث سنين، فقبلته وضممته إلى صدري، فقالت لي: يا أبت، سألتك بالله أتحبه؟ قلت: إي والله يا بنية، إني لأحبه. فقالت لي: سوأة لك من الله، يا أبت إني ظننت أنك لا تحب مع الله غير الله. فقلت لها: إي يا بنية، ولا يحبون الأولاد؟ فقالت: المحبة للخالق، والحرمة للأولاد. قال: فلطم الفضيل على رأس نفسه وقال: يا رب هذه ابنتي هجتني في حبها وحب أخيها، وعزتك لا أحببت معك أحدا حتى ألقاك. (وكان سهل) التستري (رحمة الله تعالى به علة يعالج غيره منها، ولا يعالج نفسه، فقيل له في ذلك) وعوتب (فقال: يا دوست) ، أي: يا محب، (ضرب الحبيب لا يوجع) . نقله صاحب القوت، وكان nindex.php?page=showalam&ids=14021الجنيد يقول: من علامة المحب في المكاره والأسقام هيجان المحبة، وذكرها عند نزول البلاء؛ إذ هو لطف من مولاه، ونيل القربة إلى محبوبه، وقلة التأذي بكل بلاء يصيبه لغلبة الحب على قلبه، وقد كان بعض المحبين يقول: أصفى ما أقول ذكرا إذا كنت محموما. وهذا الذي ذكره سهل من أن ضرب الحبيب لا يوجع هو مقام الاستغراق، وقد يتفق أن ضرب الحبيب يوجع، كما حكي أن الحلاج حين صلب وأمر الناس برجمه فرجموه بالحجارة، وهو ساكت لا يتأوه، فجاءت أخته وكانت من العارفات، فرجمته بحصاة صغيرة، فقال: آه. فقيل له في ذلك، فقال: ضرب الحبيب يوجع. وهذا له وجه، حيث إنه صدر [ ص: 656 ] ذلك بعد معرفة العذر .
(وأما الوجه الثاني: فهو أن يحس به ويدرك ألمه) ويكرهه بطبعه (ولكن يكون راضيا به) ، بل (راغبا فيه، مريدا له، أعني بعقله، وإن كان كارها) له (بطبعه) ، وهذا (كالذي يلتمس من الفصاد الفصد و) من الحجام (الحجامة، فإنه يدرك ألم ذلك أنه راض به، وراغب فيه، ومتقلد من الفصاد) والحجام (به منه بفعله) ؛ لما يجد فيه الشفاء والراحة، (ولكن حبه لثمرة سفره) التي هي الربح (طيب عنده مشقة السفر) ، وسهلها عليه، (وجعله راضيا بها) ، وهذه الدرجة واجبة، وهي الإيمان لله يجب كسبها بما ورد فيها من الفضائل، وما قبلها موهبة من الله تعالى لا يوجد بالكسب، لكن مقدماتها مكسوبة، وهي التخلق بالأخلاق المحمودة، فالتخلق من جانبك لا من جانب الله، فمتى تخليت من المذمومات وتحليت بالمحمودات أفاض الله عليك من نوره ومعرفته ما لا يمكن وصفه، ولا تمكن العبارة عنه، وكلما ازددت معرفة ازددت رضا إلى ما لا يتناهى، (ومهما أصابه بلية من الله عز وجل، وكان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له فوق ما له رضي به ورغب فيه، وأحبه وشكر الله عليه، هذا إذا كان يلاحظ الثواب والإحسان الذي يجازى به عليه، ويجوز أن يغلب الحب بحيث يكون حظ المحب في مراد محبوبه ورضاه لا لمعنى آخر وراءه، فيكون مراد حبيبه ورضاه محبوبا عنده ومطلوبا، وكل ذلك موجود في المشاهدات في حب الخلق، وقد تواصفها المتواصفون) من المحبين والعشاق (في نظمهم ونثرهم) ، ورتبوا في ذلك مؤلفات (ولا معنى له إلا بملاحظة جمال الصورة الظاهرة بالبصر، فإن نظر إلى الجمال فما هو إلا جلد) مشتمل (ولحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث بدايته) إن نظر إليها فإنها (من نطفة مذرة) ، كما قال تعالى: من مني يمنى (ونهايته) إن تأملها فإنها (جيفة قذرة) من أنتن الجيف، (وهو فيما بين ذلك) ، أي: بين البداية والنهاية (يحمل العذرة) في بطنه، وهذا فيه عبرة لمن اعتبر، هذا إذا نظر إلى المدرك (وإن نظر إلى المدرك للجمال) المذكور (فهي العين الخسيسة) الناقصة (التي) ركبت فيها حاسة الإدراك، وهي (تغلظ فيما ترى كثيرا فترى الصغير كبيرا، والكبير صغيرا، والبعيد قريبا، والقبيح جميلا) والساكن متحركا، والمتحرك ساكنا، ومن نقصها أنها تبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها، ومن الموجودات بعضها دون كلها، وتبصر غيرها ولا تبصر نفسها، وتبصر أشياء متناهية ولا تبصر ما لا نهاية له على ما تقدم تفصيل ذلك .
(فإذا تصور استيلاء هذا الحب؛ فمن أين يستحيل ذلك في حب الجمال الأزلي الأبدي الذي لا منتهى لكماله، المدرك بعين البصيرة التي لا يعتريها الغلط) والنقص (ولا يدور بها الموت) ، بخلاف العين، فإنها أول ما تسيل على الخدين في القبر، (بل تبقى عند الموت حية عند الله، فرحة برزق الله) فإنها محل المعرفة والمحبة (مستفيدة بالموت مزيد تنبه واستكشاف، فهذا أمر واضح لا يلتبس من حيث النظر بعين الاعتبار) إذا توصل فيه (ويشهد لذلك الوجود حكايات أحوال المحبين وأقوالهم) على اختلاف درجاتهم في الحب، (فقد قال nindex.php?page=showalam&ids=16113شقيق البلخي) -رحمه الله تعالى- (من يرى ثواب الشدة) وما يترتب عليها من حسن الجزاء (لا يشتهي المخرج منها، وقال الجنيد) -رحمه الله تعالى- (سألت) أستاذي (سريا السقطي) -رحمه الله تعالى- (هل يجد المحب ألم البلاء؟ قال: لا. قلت: ولو ضرب بالسيف؟ قال: نعم، وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة على ضربة) ، وهذا مقام المستغرق بالحب، فإن نفسه سكنت عن الاضطراب تحت مجاري الأقدار (وقال بعضهم: أحببت كل شيء يحبه، حتى لو أحب النار أحببت دخول النار) ، وهذا مقام الراضي المحب، كما قال ابن خفيف: الرضا [ ص: 657 ] سكون القلب إلى أحكامه، وموافقة القلب بما رضي واختار، وأنشد صاحب مصارع العشاق لسمنون:
ولو قيل طأ في النار أعلم أنه رضا لك أو مدن لنا من وصالك لقدمت رجلي نحوها فوطئتها سرورا لأني قد خطرت ببالك
(وقال بشر بن الحارث) الحافي -رحمه الله تعالى- (مررت برجل) من العيارين (وقد ضرب ألف سوط في شرقية بغداد) في جناية جناها (ولم يتكلم) ، أي: لم يتأوه من الضرب (ثم حمل إلى الحبس فتبعته، فقلت له: لم ضربت؟ فقال: لأني عاشق. فقلت له: ولو سكت؟ قال: لأن معشوقي كان بحذائي ينظر إلي) فلم أجد بسببه ألم الضرب (فقلت) له هذا في المخلوق (ولو نظرت إلى المعشوق الأكبر) كيف كان حالك (قال فزعق زعقة خر ميتا) نقل القشيري نحوه، وهذا كان محبا محجوبا، فلما انكشف له الحجاب لم يتحمل، فكان سبب زهاق روحه (وقال nindex.php?page=showalam&ids=17335يحيى بن معاذ الرازي -رحمه الله تعالى-: إذا نظر أهل الجنة إلى الله تعالى) حين يتجلى عليهم غشي عليهم، و (ذهبت عيونهم في قلوبهم من لذة النظر إلى الله تعالى ثمانمائة سنة لا ترجع إليهم. فما ظنك بقلوب وقعت بين جماله وجلاله) في الدنيا (إذا لاحظت جلاله هابت، وإذا لاحظت جماله تاهت. وقال بشر) الحافي -رحمه الله تعالى-: (قصدت عبادات) وهي قرية في جزيرة قرب البصرة (في بدايتي) ، أي: أول سلوكي (فإذا أنا برجل أعمى مجذوم قد صرع) على الأرض (والنمل يأكل لحمه، فرفعت رأسه) من الأرض شفقة عليه (فوضعته في حجري وأنا أردد الكلام) وأدعو له، (فلما أفاق) من غشيته (قال: من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربي؟!) ثم رجع إلى ربه وقال: (لو قطعني إربا إربا) ، أي: قطعة قطعة (ما ازددت له إلا حبا. قال بشر: فما رأيت بعد ذلك نقمة بين عبد وربه فأنكرتها) .
ولفظ القوت: وحدثونا عن بشر الحافي -رضي الله عنه- قال: رأيت بعبدان رجلا قد قطن البلى، وقد سالت حدقتاه على خده، وهو في ذلك كثير الذكر عظيم الشكر لله عز وجل، وإذا هو قد صرع عن جنة. قال: فوضعت رأسه في حجري وجعلت أسأل الله كشف ما به وأدعو له، فأفاق فسمع دعائي فقال: من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربي ويعترض عليه في نعمة علي؟ ونحى رأسه، قال بشر: فاعتقدت أن لا أعترض على عبد في نعمة أراها عليه من البلاء. وقال nindex.php?page=showalam&ids=14472أبو محمد السراج في مصارع العشاق: حدثنا أحمد بن علي بن ثابت، حدثنا عبد الرحمن بن فضالة، أخبرنا محمد بن عبد الله بن شافان، سمعت طيبا المحملي بالبصرة يقول: سمعت علي بن سعيد العطار يقول: مررت بعبدان بمكفوف مجذوم، وإذا الزنبور يقع عليه فيقطع لحمه، فقلت: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه به، وفتح من عيني ما أغلق من عينه. قال: فبينا أنا أردد الحمد إذا صرع، فبينا هو يتخبط فنظرت إليه، فإذا هو مقعد، فقلت: مكفوف يصرع مقعدا مجذوما! قال: فما استتممت كلامي حتى صاح: يا مكلف، دخولك فيما بيني وبين ربي، دعه يعمل بي ما شاء. ثم قال: وعزتك وجلالك لو قطعتني إربا إربا، أو صببت علي العذاب صبا ما ازددت لك إلا حبا. (وقال أبو عمر ومحمد بن الأشعث) الكوفي، وهو شيخ لابن عدي قد اتهمه، كذا ذكره الذهبي في الديوان، وأما محمد بن الأشعث الكندي فتابعي ثقة، ويكنى أبا القاسم (إن أهل مصر مكثوا أربعة أشهر لم يكن لهم غذاء إلا النظر إلى وجه يوسف الصديق عليه السلام) ، وذلك حين أصابهم القحط سبع سنوات متواليات، (كانوا إذا جاعوا نظروا إلى وجهه، فشغلهم جماله عن الإحساس بألم الجوع، بل في القرآن ما هو أبلغ من ذلك، وهو قطع النسوة) زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب (أيديهن) بالسكاكين (لاستهتارهن بملاحظة جماله حتى) دهشن و (ما أحسسن بذلك) الجراح .
(وقال سعيد بن يحيى) الكوفي العابد: وروى عنه ابنه أحمد (رأيت بالبصرة في خان عطاء بن مسلم) موضع معروف هنالك (شابا وفي يده مدية، وهو ينادي بأعلى صوته والناس حوله، وهو يقول:
يوم الفراق من القيامة أطول والموت من ألم التفرق أجمل [ ص: 658 ] قالوا الرحيل فقلت لست براحل لكن مهجتي التي تترحل
ثم بقر بالمدية بطنه وخر ميتا، فسألت عنه وعن أمره، فقيل لي: إنه كان يهوى فتى لبعض الملوك حجب عنه يوما واحدا) رواه nindex.php?page=showalam&ids=14472أبو محمد السراج في كتاب مصارع العشاق. (ويروى) في بعض الأخبار (أن يونس) النبي (قال لجبريل عليهما السلام: دلني على أعبد أهل الأرض. فدله على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه وذهب ببصره، فسمعه وهو يقول: إلهي متعتني بهما ما شئت أنت، وسلبتني ما شئت أنت، وأبقيت لي فيك الأمل، يا بر يا وصول. ويروى عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما، أنه اشتكى له ابن فاشتد وجده عليه) وقلق (حتى قال بعض القوم: لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث) ، أي: أمر حادث من الموت (فمات الغلام، فخرج ابن عمر في جنازته، وما رجل) في القوم (أشد سرورا منه، فقيل له في ذلك فقال: إنما كان حزني رحمة له، فلما وقع أمر الله رضينا به) ، وهذا هو الرضا بعد القضاء الذي جاء ذكره في الخبر المتقدم .
(وقال مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم، مات سنة 63: (كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك؛ فالديك) كان (يوقظهم للصلاة، والحمار) كانوا (ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم، والكلب) كان (يحرسهم) من بغتة العدو، قال: (فجاء الثعلب فأخذ الديك فحزنوا له، وكان الرجل صالحا فقال: عسى أن يكون خيرا. ثم جاء ذئب فحرق بطن الحمار فقتله، فحزنوا عليه، فقال الرجل: عسى أن يكون خيرا. ثم أصيب الكلب بعد ذلك، فقال: عسى أن يكون خيرا. ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا، فإذا قدسي من حولهم) من العرب (وبقواهم قال: وإنما أخذ أولئك لما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة، فكانت الخيرة لهؤلاء في هؤلاء هلاك الحيوانات، كما قدره الله تعالى) .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12455ابن أبي الدنيا في كتاب الرضا، عن nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب، قال لقمان لابنه: يا بني، لا ينزلن بك أمر رضيته أو كرهته إلا جعلت في الضمير منك أن ذلك خير لك. فخرج على حمار وابنه على حمار، وتزودا للقاء نبي قد بعث، فسارا أياما وقد استقبلتهما مفازة، فسارا فيها ما شاء الله حتى ظهرا، وقد تعالى النهار واشتد الحر ونفد الزاد واستبطأ حمارهما، فجعلا يشتدان على سوقهما، فبينما هما كذلك؛ إذ نظر لقمان أمامه، فإذا هو بسواد ودخان، فقال في نفسه: السواد فالشجر والدخان العمران، فبينما هما كذلك؛ إذ وطئ ابن لقمان على عظم فأتي على الطريق فخر مغشيا عليه، فوثب إليه لقمان وضمه إلى صدره وقال: لعل هذا خير لي. واستخرج العظم بأسنانه فذرفت عيناه، فقال: يا أبت، أنت تبكي وأنت تقول هذا خير لي، وقد نفد الطعام والماء، وبقيت أنا وأنت في هذا المكان، فإن رحلت وتركتني ذهبت بهم وغم، وإن أقمت معي متنا جميعا. فقال: يا بني، أما بكائي فرقة الوالدين، وأما ما قلت فكيف يكون هذا خيرا لي؟! فلعل ما صرفه عنك أعظم مما ابتليت فيه، ولعل ما ابتليت به أيسر مما صرف عنك، ثم نظر أمامه فلم ير ذلك الدخان والسواد، وإذا شخص أقبل على فرس أبلق عليه ثياب بيض، حتى إذا كان قريبا منه توارى عنه ثم صاح: أنت لقمان؟ قال: نعم. قال: ما قال لك ابنك؟ قال: من أنت؟ قال: أنا جبريل، أمرني ربي بخسف هذه المدينة، وأخبرت أنكما تريدانها، فدعوت ربي أن يحبسكما بما يشاء فحييتكما بما ابتلي به ابنك، ولولا ذلك لخسف بكما معهم. ثم مسح جبريل يده على قد الغلام فاستوى قائما، ورحل بهما إلى موضعهما كما يرحل الطير.