وأمر الأعصاب ، والعروق ، والأوردة ، والشرايين ، وعددها ، ومنابتها ، وانشعاباتها ، أعجب من هذا كله ; وشرحه يطول فللفكر مجال في آحاد هذه الأجزاء ثم في جملة البدن فكل ذلك نظر إلى عجائب أجسام البدن . وعجائب المعاني والصفات التي لا تدرك بالحواس أعظم . فانظر الآن إلى ظاهر الإنسان وباطنه ، وإلى بدنه وصفاته ، فترى به من العجائب والصنعة ما يقضي به العجب ، وكل ذلك صنع الله في قطرة ماء قذرة ، فترى من هذا صنعه في قطرة ماء فما صنعه في ملكوت السماوات وكواكبها وما حكمته في أوضاعها ، وأشكالها ، ومقاديرها ، وأعدادها ، واجتماع بعضها ، وتفرق بعضها ، واختلاف صورها ، وتفاوت مشارقها ومغاربها فلا تظنن أن ذرة من ملكوت السماوات تنفك عن حكمة وحكم ; بل هي أحكم خلقا ، وأتقن صنعا ، وأجمع للعجائب ، من بدن الإنسان . بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السماوات ، ولذلك قال تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها .
. فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولا وما صارت إليه ثانيا وتأمل أنه لو اجتمع الجن والإنس على أن يخلقوا للنطفة سمعا أو بصرا أو عقلا أو قدرة أو علما أو روحا أو يخلقوا فيها عظما أو عرقا أو عصبا أو جلدا أو شعرا هل يقدرون على ذلك ؟ بل لو أرادوا أن يعرفوا كنه حقيقته ، وكيفية خلقته ، بعد أن خلق الله تعالى ذلك لعجزوا عنه . فالعجب منك لو نظرت إلى صورة إنسان مصور على حائط تأنق النقاش في تصويرها حتى قرب ذلك من صورة الإنسان ، وقال الناظر إليها : كأنه إنسان عظم تعجبك من صنعة النقاش ، وحذقه ، وخفة يده ، وتمام فطنته ، وعظم في قلبك محله ، مع أنك تعلم أن تلك الصورة إنما تمت بالصبغ ، والقلم ، واليد ، وبالقدرة ، وبالعلم وبالإرادة وشيء من ذلك ليس من فعل النقاش ، ولا خلقه ، بل هو من خلق غيره ، وإنما منتهى فعله الجمع بين الصبغ والحائط على ترتيب مخصوص ، فيكثر تعجبك منه ، وتستعظمه .
وأنت ترى النطفة القذرة كانت معدومة فخلقها خالقها في الأصلاب والترائب ثم أخرجها منها وشكلها فأحسن تشكيلها ، وقدرها فأحسن تقديرها وتصويرها ، وقسم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة ، فأحكم العظام في أرجائها وحسن أشكال أعضائها ، وزين ظاهرها وباطنها ، ورتب عروقها وأعصابها ، وجعلها مجرى لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها وجعلها سميعة بصيرة ، عالمة ناطقة ، وخلق لها الظهر أساسا لبدنها ، والبطن حاويا لآلات غذائها ، والرأس جامعا لحواسها ففتح العينين ورتب طبقاتها وأحسن شكلها ، ولونها ، وهيئاتها ثم حماها بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها ثم أظهر في مقدار عدسة منها صورة السماوات مع اتساع أكنافها ، وتباعد أقطارها ، فهو ينظر إليها ثم شق أذنيه وأودعهما ماء مرا ليحفظ سمعها ، ويدفع الهوام عنها ، وحوطها بصدقة الأذن لتجمع الصوت فترده إلى صماخها ولتحس ، بدبيب الهوام إليها . وجعل فيها تحريفات ، واعوجاجات لتكثر ، حركة ما يدب فيها ، ويطول طريقه فيتنبه من ، النوم صاحبها إذا قصدها دابة في حال النوم ثم رفع الأنف من وسط الوجه وأحسن شكله ، وفتح منخريه ، وأودع فيه حاسة الشم ، ليستدل باستنشاق الروائح على مطاعمه وأغذيته وليستنشقه ، بمنفذ المنخرين روح الهواء غذاء لقلبه ، وترويحا لحرارة باطنه وفتح الفم ، وأودعه اللسان ناطقا وترجما ، ومعربا عما في القلب وزين الفم بالأسنان لتكون ، آلة الطحن ، والكسر والقطع ، فأحكم أصولها ، وحدد رؤوسها ، وبيض لونها ، ورتب صفوفها ، متساوية الرءوس ، متناسقة الترتيب ، كأنها الدر المنظوم وخلق الشفتين ، وحسن لونها وشكلها ، لتنطبق على الفم فتسد منفذه ، وليتم بها حروف الكلام وخلق الحنجرة وهيأها لخروج الصوت ، وخلق للسان قدرة للحركات والتقطيعات لتتقطع الصوت في مخارج مختلفة ، تختلف بها الحروف ليتسع بها طريق النطق بكثرتها . ثم خلق الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة ، والخشونة والملاسة ، وصلابة الجوهر ورخاوته ، والطول والقصر ، حتى اختلفت بسببها الأصوات فلا ، يتشابه صوتان بل يظهر بين كل صوتين فرقا حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة ثم زين الرأس بالشعر والأصداغ وزين الوجه باللحية والحاجبين وزين الحاجب برقة الشعر ، واستقواس الشكل ، وزين العينين بالأهداب .
ثم خلق الأعضاء الباطنة ، وسخر كل واحد لفعل مخصوص ; فسخر المعدة لنضج الغذاء والكبد لإحالة الغذاء إلى الدم والطحال ، والمرارة ، والكلية ، لخدمة الكبد . فالطحال يخدمها بجذب السوداء عنها والمرارة تخدمها بجذب الصفراء عنها والكلية تخدمها بجذب المائية عنها والمثانة تخدم الكلية بقبول الماء عنها ثم تخرجه في طريق الإحليل والعروق تخدم الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن ثم خلق اليدين وطولهما لتمتد إلى المقاصد وعرض الكف وقسم الأصابع الخمس ، وقسم كل أصبع بثلاث أنامل ووضع الأربعة في جانب ، والإبهام في جانب لتدور ، الإبهام على الجميع ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق الفكر وجها آخر في وضع الأصابع سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربع ، وتفاوت الأربع في الطول ، وترتيبها في صف واحد ، لم يقدروا عليه ; إذ بهذا الترتيب صلحت اليد للقبض ، والإعطاء ، فإن بسطها كانت له طبقا يضع عليها ما يريد وإن جمعها كانت له آلة للضرب ، وإن ضمها ضما غير تام كانت مغرفة له وإن بسطها وضم أصابعها كانت مجرفة له ثم خلق الأظفار على رءوسها زينة للأنامل وعمادا لها من ورائها حتى لا تنقطع وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تتناولها الأنامل وليحك ، بها بدنه عند الحاجة فالظفر الذي هو أخس الأعضاء لو عدمه الإنسان وظهر به حكة لكان أعجز الخلق وأضعفهم ; ولم يقم أحد مقامه في حك بدنه ثم هدى اليد إلى موضع الحك حتى تمتد إليه ، ولو في النوم والغفلة من غير حاجة إلى طلب ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك إلا بعد تعب طويل ثم خلق هذا كله من النطفة ، وهي في داخل الرحم في ظلمات ثلاث ولو كشف الغطاء والغشاء وامتد إليه البصر لكان يرى التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئا فشيئا ; ولا يرى المصور ولا آلته ، فهل رأيت مصورا أو فاعلا لا يمس آلته ومصنوعه ولا يلاقيه وهو يتصرف فيه فسبحانه ما أعظم شأنه وأظهر برهانه .
ثم انظر مع كمال قدرته إلى تمام رحمته فإنه لما ضاق الرحم عن الصبي لما كبر كيف هداه السبيل حتى تنكس وتحرك وخرج من ذلك المضيق وطلب المنفذ ; كأنه عاقل بصير بما يحتاج إليه .
ثم لما خرج واحتاج إلى الغذاء كيف هداه إلى التقام الثدي ، ثم لما كان بدنه سخيفا لا يحتمل الأغذية الكثيفة كيف دبر له في خلق اللبن اللطيف ، واستخرجه من بين الفرث والدم سائغا خالصا ، وكيف خلق الثديين وجمع فيهما اللبن وأنبت منهما حلمتين على قدر ما ينطبق عليهما فم الصبي ، ثم فتح في حلمة الثدي ثقبا ضيقا جدا حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص تدريجا ، فإن الطفل يطيق منه إلا القليل ، ثم كيف هداه للامتصاص حتى يستخرج من ذلك المضيق اللبن الكثير عند شدة الجوع .
(وأمر الأعصاب، والعروق، والأوردة، والشرايين، وعددها، ومنابتها، وانشعاباتها، أعجب من هذا كله; وشرحه يطول ) . فالأعصاب مبدؤها من الدماغ والنخاع، وجميعها أزواج سوى عصب واحد، فإنه فرد ولا زوج له; وهو آخر النخاعيات. فما نبت من الدماغ نفسه سبعة أزواج بها حس الحواس الخمس، وحس بعض الأعضاء. وأما العروق فمنها نوابض، ومنها ضوارب، فمن النوابض الأوردة، ومنبتها الكبد، ولها انشعابات، فما يأتي منها اليد من ناحية الإبط يسمى "الباسليق"، وما جاء إلى اليد من الجانب الوحشي يسمى "القيفال"، وما غار فى العنق مصعدا يسمى "الودج"، وما كان عند المرفق يسمى "الأكحل"، وما ركب الزند الأعلى يسمى "حبل الذراع"، وما بلغ رأس الزند الأسفل يكون من بعضه شعبة العرق الذي بين الخنصر والبنصر المسمى بـ"الأسليم"، وما يمر في عضد الساق الداخل والخارج يسمى "المابض"، وما ظهر عند الكعب الداخل يسمى "الصافن"، وما يمر في الجانب الظاهر من الساق وهو غائر إلى ناحية الكعب الخارج يسمى "عرق النساء"، وفعل الجميع جذب الكيلوس إلى الكبد .
وأما الضوارب فهي الشرايين، ومنبتها التجويف الأيسر من القلب، ويخرج من هذا التجويف شريانان، أحدهما صغير غير متضاعف يسمى "الشريان الوريدي"، والثاني كبير جدا يسمى "الأبهر"، وحين طلوعه تتشعب منه شعبتان: إحداهما وهي أصغرهما تصير إلى التجويف الأيمن من تجويفي القلب، والثانية تستدير حول القلب ثم تدخل إليه وتتفرق فيه. ثم إن الباقي من العرق النابت من تجويف القلب الأيسر بعد انشعاب هاتين الشعبتين ينقسم قسمين: أحدهما يأخذ نحو أعلى البدن، وتتشعب منه في مصعده من الجانبين شعب، والثاني يأخذ نحو أسافل البدن فيركب خرز الصلب نازلا إلى أسفل، وتتشعب منه عند كل خرزة شعبة يمنة، وأخرى يسرة .
(فلا تظن أن ذرة في ملكوت السموات تنفك عن حكمة وحكم; بل هي أحكم خلقا، وأتقن صنعا، وأجمع للعجائب، من بدن الإنسان. بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السموات، ولذلك قال تعالى: أأنتم أشد خلقا ) أي أصعب خلقا ( أم السماء ) ثم بين كيف خلقها فقال: ( بناها . فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولا ) كيف كانت في قلتها وحقارتها (وما صارت إليه ثانيا ) بعد اختلاف الأطوار السبعة عليها (وتأمل لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا للنطفة سمعا أو بصرا أو عقلا أو قدرة أو علما أو روحا أو يخلقوا فيها عظما أو عرقا أو عصبا أو جلدا أو شعرا هل يقدرون على ذلك؟ بل لو أرادوا أن يعرفوا كنه حقيقته، وكيفية خلقته، بعد أن خلق الله تعالى ذلك لعجزوا عنه. فالعجب منك لو نظرت إلى صورة إنسان مصور على حائط ) أو خشب أو ورق وقد (تأنق النقاش في تصويرها ) وتحليتها (حتى قرب ذلك من صورة الإنسان، وقال الناظر إليها: كأنه إنسان ) وهو غاية التقريب (عظم تعجبك من صنعة النقاش، وحذقه، وخفة يده، وتمام فطنته، وعظم في قلبك محله، مع أنك تعلم أن تلك الصورة إنما تمت بالصبغ، والقلم، وبالحائط، واليد، وبالقدرة، وبالعلم، والإرادة، وشيء من ذلك [ ص: 194 ] ليس من فعل النقاش، ولا خلقه، بل هو من خلق غيره، وإنما منتهى فعله الجمع بين الصبغ والحائط على ترتيب مخصوص، فيكثر تعجبك منه، وتستعظمه، وأنت ترى النطفة القذرة كانت معدومة فخلقها خالقها في الأصلاب والترائب ) وجمعها من بين الذكر والأنثى (ثم أخرجها منها ) فألقاها في الرحم (وشكلها فأحسن تشكيلها، وقدرها فأحسن تقديرها، و) صورها فأحسن (تصويرها، وقسم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة، فأحكم العظام ) التي هي دعائم البدن (في أرجائها ) أي أطرافها (وحسن أشكال أعضائها، وزين ظاهرها وباطنها، ورتب عروقها وأعصابها، وجعلها مجرى لغذائها ) وممدا لإيصال منافعها (ليكون ذلك سبب بقائها ) في الدنيا (وجعلها سميعة بصيرة، عالمة ناطقة، وخلق لها الظهر أساسا لبدنها، والبطن حاويا لآلات غذائها، والرأس جامعا لحواسها ) الظاهرة (ففتح العينين ورتب طبقاتها ) بما في أثنائها من الرطوبات (وأحسن شكلها، ولونها، وهيئاتها ثم حماها بالأجفان ) من الأعلى والأسفل (لتسترها ) من عوارض الآفات (وتحفظها ) عن أشعة الشمس (وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها ) بأهدابها (ثم أظهر في مقدار عدسة منها صورة السموات مع اتساع أكنافها، وتباعد أقطارها، فهو ينظر إليها ) .
وللناس في صفة الإبصار خمسة مذاهب: أحدها، وهو مذهب المتكلمين، أن الإبصار علم خاص يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه. والثاني قول الطبيعيين، وهو أن الإبصار ورود صورة المرئي على الرائي فينطبع فيه مثال للمرئي فيدركه بانطباع صورته فيه. والثالث قول الرياضيين، وهو أن الإبصار لأجل أن الشعاع يخرج من العين على شكل مخروط، رأسه عند مركز البصر، وقاعدته عند سطح المبصر. والرابع أن الإبصار بأن يخرج من العين خط واحد مستقيم ينتهي إلى المبصر، ثم يتحول على سطحه حركة في غاية السرعة في الطول والعرض، فيحصل الإدراك. والخامس أن لا يخرج من العين شعاع لكن الشعاع الذي فيه يتكيف الهوى بكيفيته، ويصير ذلك آلة للإبصار. والحق في هذه الأقوال هو الأول; وقد وردت على بقية الأقوال إيرادات مع أن مسائل المبصرات في علم المناظر إنما تتخرج على قاعدة الشعاع، وبسط ذلك في المبسوطات في هذا العلم، وقد أورد الشهاب القرافي في كتابه "الاستبصار" لما يدرك بالإبصار منها جملة ولا يليق إيراده هنا .
(ثم شق أذنيه ) وركبهما من اللحم، والغضروف، والعصب الحساس، (وأودعهما ماء مرا يحفظ سمعها، ويدفع الهوام عنها، وحوطها بصدفة الأذن ليجتمع الصوت فترده إلى صماخها، وليحس بدبيب الهوام إليها. وجعل فيها تحريفات، واعوجاجات، ليكثر حركة ما يدب فيها، ويطول طريقه، فينتبه عن النوم صاحبها إذا قصدها دابة في حال النوم ) ، ولئلا يصادم الأصوات المزعجة عصب الحس دفعة بعنف فتلحقه آفة. واعلم أن داخل الأذن فضاء هو موضوع مجوف ذو تقعير يؤدي إليه ثقبه، وقد انبسط غشاء منتسج من ليف عصب الحس على محيط ذلك الفضاء، كانبساط الجلد على الطبل; وبهذا الغشاء يكون السمع عندما يقرعه الصوت لأن في ذلك الفضاء هواء راكدا، فكلما أوصل الهواء الخارجي المتموج إلى العصب حرك الهواء الداخل فيصادمان العصب معا فيدرك الصوت .
(ثم رفع الأنف من وسط الوجه ) بعد أن ركبه من العظم، والغضروف، والعضل، (وأحسن شكله، وفتح منخريه، وأودع فيه حاسة الشم، ليستدل باستنشاق الروائح على مطاعمه وأغذيته، وليستنشق بمنفذ المنخرين روح الهواء غذاء لقلبه، وترويحا لحرارة باطنه ) . اعلم أن عضلة النصف الأعلى القريب من الحاجبين عظمية، وعضلة النصف الأسفل غضروفية; ومجراه إذا علا انقسم قسمين: أحدهما يفضي إلى أقصى الفم، والثاني يمر صاعدا حتى ينتهي إلى العظم الشبيه بالمصفاة الموضوع في وجه زائد في الدماغ. وبعد هذا العظم منفذ في الغشائين تنفذ فيه الرائحة الواصلة إلى الزائدة إلى الدماغ، فبهذا المجرى يكون الشم، وبالأولى التنفس الجاري على العادة لا الكائن بالفم. ومن منفذي الأنف منفذان إلى الحنك بهما يصير الصوت صافيا فإذا انسد تغير الصوت; [ ص: 195 ] ومنفذان إلى ما في العين بهما يصل رائحة الكحل إلى الأنف .
اعلم أن الحنجرة مؤلفة من ثلاث غضاريف: أولها الدرقي، وهو قدام الحلق، مقعر الباطن، محدب الظاهر، متصل بأصل اللسان الثاني يحاذي الدرقي من خلف الثالث، مكبوب عليهما، ويلقى الدرقي بغير اتصال، ويسمى "المكبي". وهما يأتيان الدرقي عند الأكل فيساعدانه على تغطية قصبة الرئة وضمها لئلا ينزل فيه شيء مما يؤكل ويشرب وينحيانه عنه عند الكلام فينفتح. وإنما ينتو الحنجرة ويغلظ الصوت عند الإدراك لأن الحرارة التي تنهض في ذلك الوقت توسع الحنجرة فينتو ويغلظ الصوت. والآلة التي تحرك الهواء الذي هو مادة الصوت بحركتي الانقباض والانبساط يسمى بـ"الحجاب". واللهاة عضو معلق فوق الحنجرة يصل إليه أولا كل شيء خرج من الحنجرة كالتنفس، والنفث، والصوت، وكل شيء دخل فيها كالهواء والدخان ونحوهما، ويدفع مضرة ذلك عن الحنجرة وقصبة الرئة، ولهذا يتغير صوت من قلع لهاته وتضرر حنجرته. والحنك كقبة يتضاعف الصوت إذا حصل فيه، والهواء الذي هو مادة الصوت ما دام في العصبية يكون كالدخان، فإذا وصل إلى طرف القصبة صار صوتا. وحركة اللسان بمعونة الأسنان تظهر الحروف في ذلك الصوت فيصير كلاما .
واعلم أن في الحنجرة رطوبة دسمة لزجة كائنة في تضاعيف غضاريف الحنجرة بها يكون الصوت صافيا; فإذا عرض لأحد حمى محرقة تحرق تلك الرطوبة فلا يقدر على إخراج الصوت، وكذا من تكلم كثيرا أو سافر في هواء حار يابس فإنهما لا يقدران على التكلم إلا إذا بلا حلقهما بالماء أو بشيء آخر رطب .
(ثم زين الرأس بالشعر ) في الرجال والنساء (والأصداغ ) جمع صدغ، وهو الشعر الذي يدلى ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن، وهذا للنساء خاصة. (وزين الوجه باللحية ) وهذا للرجل خاصة، ومن تسبيح بعض الملائكة: "سبحان من زين الرجال باللحى، والنساء بالشعور". (والحاجبين ) وهذا للرجال والنساء جميعا (وزين الحاجب برقة الشعر، واستقواس الشكل، وزين العينين بالأهداب ) جمع هدب، وهو ما نبت من الشعر على أشفار العين. (ثم خلق الأعضاء الباطنة، وسخر كل واحد ) منها (لفعل مخصوص; فسخر المعدة ) التي هي حوض البدن (لإحالة الغذاء إلى الدم ) وهي جسم مستدير الهيئة، مركب من اللحم، والعصب، والعروق، والشرايين، والغشاءين (والطحال، والمرارة، والكلية، لخدمة الكبد. فالطحال ) عضو مستطيل الشكل كاللسان، سخيف اللحم، كمد اللون، مغشى بغشاء يأتيه من الصفاق ليس له في نفسه حس بل لغشائه (يخدمها بجذب السوداء عنها ) وهو وعاء السوداء، وبالوعتها، وموضعه في الجانب الأيسر من ضلوع الخلف والمعدة، وجعل متخلخلا ليستقر السوداء المنجذب إليه في تضاعيفه، وجعل فيه الشرايين الكثيرة لتقابل حرارتها برودة السوداء. (والمرارة ) عضو عصباني ذو طبقة واحدة كخريطة منسوجة من الليف المستقيم، والعريض، والمورب، (يخدمها بجذب الصفراء عنها ) [ ص: 196 ] وهي وعاء الصفراء، وبالوعتها، وهي موضوعة على الزائدة الكبيرة من زوائد الكبد، ولها منفذان، فإن اتفق قصور في جذب المرارة الصفراء من الكبد يرم الكبد، فإن تعفنت الصفراء في الكبد حدثت الحميات الحادة. (والكلية ) مركبة من لحم مكتنز صلب قليل الحمرة، وعروق، وشرايين، يأتيها عصب صغير يكون منه غشاؤها، موضوعة بالقرب من الكبد. (تخدمها بجذب المائية ) وجوهر مندمج صلب لئلا ينفذ فيها إلا الماء الرقيق، وهما كليتان، ولكل منهما عنقان، وأحد عنقي أحدهما يتصل بالعرق الطالع من حدبة الكبد، والثاني من كل منهما يمر مستقلا حتى يصل بالمثانة، ويسميان "الحالبين"، وهما مجرا البول. (والمثانة ) وهي مركبة من جسم عصباني مضاعف ذي طبقتين من عروق وشريانات، وهي وعاء البول وآلة لدفعه، وموضعها بين الدبر والعانة، وشكلها بلوطي بيضي ككيس، طرفاه حادان، ووسطه ذو سعة (تخدم الكلية بقبول الماء عنها ثم تخرجه في طريق الإحليل ) .
اعلم أن البول مجيئه من الكلى من الحالبين; فإذا بلغ إلى المثانة خرق إحدى طبقتيها ومر فيما بين الطبقتين حتى يأتي عنق المثانة، ثم يخرق الطبقة الثانية فينصب منها إلى تجويف المثانة في منفذ خفي حتى يستره غشاء صغير من أن يسد هذا المنفذ عند امتلاء المثانة من البول لئلا يرجع من حيث جاء، وفي عنق المثانة الذي هو مخرج البول ثلاث عطفات، وللحيوانات الأخر عطفة واحدة، ولهذا يكون تنظيف مثانة الرجال من البول أبطأ .
(والعروق تخدم الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن ) فإن الكيلوس لا يصلح للغذاء دون أن يصير إلى الكبد، ويهضم فيها، ويستحيل إلى الدم وباقي الأخلاط، ثم يمتاز الدم عنها كماء فيكون غذاء للأعضاء. (ثم خلق اليدين وطولهما لتمتدا إلى المقاصد ) عند التناول (وعرض الكف ) أي جعله عريضا (وقسم ) فيه (الأصابع الخمس، وقسم كل إصبع بثلاث أنامل ) وتسمى أيضا "السلاميات"، وهي عظام صغار يتصل بعضها ببعض بمفاصل موثقة بربط (ووضع الأربعة في جانب، والإبهام ) وحده (فى جانب، ليدور الإبهام على الجميع ) فالعظم الأول من الإبهام مربوط بالرسغ لا بالمشط، كالأربع الأخر، وقيل: هو متصل بطرف الزند الأعلى بمفصل واسع سلس لأنه يحتاج إلى حركة واسعة ليلقى به الأصابع الأربع. (ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق الفكر وجها آخر في وضع الأصابع سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربع، وتفاوت الأربع في الطول، وترتيبها في صف واحد، لم يقدروا عليه; إذ بهذا الترتيب صلحت اليد للقبض، والإعطاء، فإن بسطها كانت له طبقا ) أي تشبيها بالطبق (وإن جمعها ) مع بعضها (كانت له آلة للضرب، وإن ضمها ضما غير تام كانت ) مثل (مغرفة ) له (وإن بسطها وضم أصابعها كانت ) مثل (مجرفة له ) .
(ثم خلق الأظفار ) مستديرة (على رؤوسها ) والظفر إما من العظام، وإما جسم عظمي موصول بالسلاميات الأخيرة من الأصابع، مربوط مع اللحم والجلد برباطات من جنس الأوتار، وقد يصير إلى الظفر عصب، ووريد، وشريانات، يؤدي إليه الحياة والغذاء (زينة للأنامل ) وهذا أحد منافع الأظفار (و ) الثانية لتكون (عمادا لها من ورائها حتى لا تنقطع ) ولا تهن عند الشد على الشيء (و ) الثالثة (ليلتقط بها الأشياء الدقيقة ) أي ليتمكن من لقط الأشياء (الصغيرة التي لا تتناولها الأنامل، و ) الرابعة (ليحك بها بدنه عند الحاجة ) وهذه الأربعة أولى بنوع الإنسان، والخامسة أن تكون سلاحا في بعض الأوقات; وهذه أولى بالحيوانات الأخرى. وخلق الظفر من عظام لينة ليتطامن تحت ما يصاكه فلا ينصدع (فالظفر الذي هو أخس الأعضاء لو عدمه الإنسان وظهر به حكة لكان أعجز الخلق وأضعفهم; ولم يقم أحد مقامه في حك بدنه) وإليه يشير قول القائل:
ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك
وإذا بعثت لحاجة فابعث لأعرفهم بقدرك
(ثم هدى اليد إلى موضع الحك حتى تمتد إليه، ولو في النوم والغفلة من غير حاجة إلى طلب ) . وفي نسخة إلى [ ص: 197 ] طالب (ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك إلا بعد تعب طويل ) ثم لا يشفيه الغليل. (ثم خلق هذا كله من النطفة، وهي في داخل الرحم في ظلمات ثلاث ) هي الأغشية: أحدها المشيمة، وهي الغشاء المحيط، والثاني الذي ينصب إليه بول الجنين، والثالث الذي هو مغص العرق. (ولو كشف الغطاء والغشاء وامتد البصر إليه لكان يرى التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئا فشيئا; ولا يرى المصور ولا آلته، فهل رأيت مصورا أو فاعلا لا تمس آلته مصنوعه ولا يلاقيه وهو يتصرف فيه فسبحانه ما أعظم شأنه وأظهر برهانه )
(ثم انظر مع كمال قدرته إلى تمام رحمته فإنه لما ضاق الرحم عن الصبي ) هكذا في النسخ، والأولى الجنين، فإنه هكذا يطلق عليه ما دام في الرحم (لما كبر كيف هداه السبيل حتى تنكس وتحرك وخرج من ذلك المضيق وطلب المنفذ; كأنه عاقل بصير بما يحتاج إليه ) فإن الجنين إذا تم خلقه وكمل لم يكتف بما يجيئه من دم الطمث والنسيم ويهرب عن الضيق وقلة الغذاء، فيتحرك حركات صعبة قوية وتنتهك أربطة الرحم (ثم لما خرج واحتاج إلى الغذاء كيف هداه إلى التقام الثدي، ثم لما كان بدنه سخيفا لا يحتمل الأغذية الكثيفة كيف دبر له في خلق اللبن اللطيف، واستخرجه من بين الفرث والدم سائغا خالصا، وكيف خلق الثديين ) كل منهما مركب من عروق وشرايين وعصب يحشى ما بينها نوع من اللحم غددي (وجمع فيهما اللبن ) فيحيل ما في تجويفهما من الدم حتى يصير لبنا، كما يحيل لحم الكبد ما يجتذب من المعدة والأمعاء حتى يصير بتشبيهه له إياه نفسه دما (وأنبت منهما حلمتين على قدر ما ينطبق فم الصبي، ثم فتح في حلمة الثدي ثقبا ضيقا جدا حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص تدريجا، فإن الطفل لا يطيق إلا القليل، ثم كيف هداه للامتصاص حتى يستخرج من ذلك المضيق اللبن الكثير عند شدة الجوع ) .