وتبصرة للمستبصرين إذ لم يكن أحد أكرم على الله منه ; إذ كان خليل الله وحبيبه ونجيه ، وكان صفيه ورسوله ونبيه فانظر هل أمهله ساعة عند انقضاء مدته ؟ وهل أخره لحظة بعد حضور منيته ؟ لا ، بل أرسل إليه الملائكة الكرام الموكلين بقبض أرواح الأنام فجدوا بروحه الزكية الكريمة لينقلوها وعالجوها ليرحلوها عن جسده الطاهر إلى رحمة ورضوان وخيرات حسان بل إلى مقعد صدق في جوار الرحمن ، فاشتد مع ذلك في النزع كربه وظهر أنينه وترادف قلقه وارتفع حنينه وتغير لونه وعرق جبينه ، واضطربت في الانقباض والانبساط شماله ويمينه ، حتى بكى لمصرعه من حضره وانتحب لشدة حاله من شهد منظره ، فهل رأيت منصب النبوة دافعا عنه مقدورا ؟ وهل راقب الملك فيه أهلا وعشيرا ؟ وهل سامحه إذ كان للحق نصيرا ، وللخلق بشيرا ونذيرا ، هيهات بل امتثل ما كان به مأمورا ، واتبع ما وجده في اللوح مسطورا ، فهذا كان حاله ، وهو عند الله ذو المقام المحمود والحوض المورود وهو nindex.php?page=hadith&LINKID=6950أول من تنشق عنه الأرض وهو صاحب الشفاعة يوم العرض فالعجب أنا لا نعتبر به ، ولسنا على ثقة فيما نلقاه ، بل نحن أسراء الشهوات وقرناء المعاصي والسيئات ، فما بالنا لا نتعظ بمصرع محمد سيد المرسلين وإمام المتقين وحبيب رب العالمين لعلنا نظن أننا مخلدون أو نتوهم أنا مع سوء أفعالنا عند الله مكرمون ، هيهات هيهات ، بل نتيقن أنا جميعا على النار واردون ، ثم لا ينجو منها إلا المتقون ، فنحن للورود مستيقنون ، وللصدور عنها متوهمون لا بل ظلمنا أنفسنا إن كنا كذلك لغالب الظن منتظرين ، فما نحن والله من المتقين ، وقد قال الله رب العالمين : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا فلينظر كل عبد إلى نفسه أنه إلى الظالمين أقرب أم إلى المتقين ؟ فانظر إلى نفسك بعد أن تنظر إلى سيرة السلف الصالحين فلقد ، كانوا مع ما وفقوا له من الخائفين .
* (الباب الرابع في وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) *
(و) وفاة (الخلفاء الراشدين من بعده) رضي الله عنهم .
(اعلم) هداك الله تعالى بتأييده وأوصلنا وإياك إلى مقام توفيقه وتسديده، أن هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان ويجلب الفجائع لإثارة الآخرين، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوي الإيمان .
اعلم (أن في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة) الأسوة بالكسر وبالضم القدوة (حيا وميتا وفعلا وقولا) يجب التأسي به في جميع الأحوال، قال nindex.php?page=showalam&ids=11838أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاءه إخوة تصافحه وتقول له: يا عبد الله، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (وجميع أحواله) -صلى الله عليه وسلم- (عبرة للناظرين) المتأملين (وتبصرة للمستبصرين إذا لم يكن أحد) من المخلوقات (أكرم على الله منه; إذ كان خليل الله وحبيبه ونجيه، وكان صفيه ورسوله ونبيه) وقد شهدت بذلك الآيات والأخبار الصحيحة .
(فانظر هل أمهله ساعة عند انقضاء موته؟ وهل أخره لحظة بعد حصول منيته؟ لا، بل أرسل إليه الملائكة الكرام الموكلين بقبض أرواح الأنام) وهم ملك الموت مع الأعوان كما تقدمت الإشارة لذلك (فجدوا بروحه الزكية الكريمة لينقلوها وعالجوها ليرحلوها عن جسده الطاهر) المطهر (إلى رحمة ورضوان وخيرات حسان بل إلى مقعد صدق في جوار الرحمن، فاشتد مع ذلك في النزع كربه) وهو ما كان يجده -صلى الله عليه وسلم- من شدة الموت; لأنه كان فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر ليتضاعف له الأجر (وظهر أنينه وترادف قلقه وارتفع حنينه وتغير لونه وعرق جبينه، واضطربت في الانقباض والانبساط شماله ويمينه، حتى بكى لمصرعه من حضره) من الرجال والنساء (وانتحب لشدة حاله من شاهد منظره، فهل رأيت منصب النبوة دافعا عنه [ ص: 285 ] مقدورا؟ وهل راقب الملك فيه أهلا وعشيرا؟ وهل سامحه إذ كان للحق نصيرا، وللخلق بشيرا ونذيرا، هيهات بل امتثل ما كان به مأمورا، واتبع ما وجده في اللوح مسطورا، فهذا كان حاله، وهو عند الله ذو المقام المحمود) الذي يحمده الأولون والآخرون (والحوض المورود) كما وردت بذلك الأخبار وسيأتي ذكرها .
(فالعجب أن لا تعتبر به، ولسنا على ثقة فيما نلقاه، بل نحن أسراء الشهوات وقرناء المعاصي والسيئات، فما بالنا لا نتعظ بمصرع) سيدنا (محمد سيد المرسلين وإمام المتقين وحبيب رب العالمين) -صلى الله عليه وسلم- (لعلنا نظن أننا خالدون) في الدنيا (أو نتوهم أنا مع سوء أفعالنا عند الله مكرمون، هيهات هيهات، بل نتيقن إنا جميعا على النار واردون، ثم لا ينجو منها إلا المتقون، فنحن للورود متيقنون، وللصدور عنها متوهمون) روى nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد كلاهما في الزهد nindex.php?page=showalam&ids=13359وابن عساكر عن nindex.php?page=showalam&ids=15558بكر بن عبد الله المزني، قال: لما نزلت هذه الآية: وإن منكم إلا واردها ذهب nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة إلى بيته فبكى، فجاءت المرأة فبكت المرأة، وجاء أهل البيت فجعلوا يبكون، فلما انقطعت عبرتهم، قال: يا أهلاه فما الذي أبكاكم؟ قالوا: لا ندري ولكن رأيناك بكيت فبكينا، قال: أنزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آية ينبئني فيها ربي أني وارد النار ولم ينبئني أني صادر عنها، فذلك الذي أبكاني.
وروى nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم في الحلية عن nindex.php?page=showalam&ids=16561عروة بن الزبير قال: لما أراد ابن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشام أتاه المسلمون يودعونه فبكى، فقال: والله ما بي حب الدنيا ولا ضنانة بكم، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية: وإن منكم إلا واردها فقد علمت أني وارد النار ولا أدري كيف الصدر بعد الورود.
وروى nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك nindex.php?page=showalam&ids=16000وسعيد بن منصور nindex.php?page=showalam&ids=12508وابن أبي شيبة nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد nindex.php?page=showalam&ids=17259وهناد معا في الزهد، nindex.php?page=showalam&ids=16298وعبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في البعث عن nindex.php?page=showalam&ids=16834قيس بن أبي حازم، قال: بكى nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة، فقالت امرأته: ما يبكيك؟ قال: إني أنبئت أني وارد النار ولم أنبأ أني صادر. وروى nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة عن الحسن قال: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا التقوا يقول الرجل لصاحبه: هل أتاك أنك وارد؟ فيقول: نعم، فيقول: هل أتاك أنك خارج؟ فيقول: لا، فيقول: ففيم الضحك إذا؟ وروى nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك nindex.php?page=showalam&ids=17259وهناد عن أبي ميسرة أنه أوى إلى فراشه فقال: يا ليت أمي لم تلدني، فقالت امرأته: يا أبا ميسرة إن الله قد أحسن إليك هداك إلى الإسلام، فقال: أجل ولكن الله قد بين لنا أنا واردون النار ولم يبين أنا صادرون عنها. وروى nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك عن الحسن قال: قال رجل لأخيه: يا أخي هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك خارج منها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك؟ فما رئي ضاحكا حتى مات .
(لا بل ظلمنا أنفسنا إن كنا كذلك لغالب الظن منتظرين، فما نحن والله من المتقين، وقد قال الله رب العالمين: وإن منكم إلا واردها ) أي: داخلها كما قاله nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود، وروى nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها، وورود المشركين أن يدخلوها ( كان على ربك حتما مقضيا ) أي: قسما واجبا ( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ) أي: على ركبهم، ولا يجلس الرجل جاثيا إلا عند كرب نزل به (فلينظر كل عبد إلى نفسه أنه إلى الظالمين أقرب أم إلى المتقين؟ فانظر إلى نفسك بعد أن تنظر إلى سيرة السلف الصالحين، فقد كانوا مع ما وفقوا له من الخائفين، ثم انظر إلى سيد المرسلين) -صلى الله عليه وسلم- (فإنه كان من أمره على يقين إذ كان سيد النبيين وقائد المتقين، واعتبر، كيف كان كربه عند فراق الدنيا؟ وكيف اشتد أمره عند الانقلاب إلى جنة المأوى) لما أن الموت مكروه [ ص: 286 ] بالطبع; لما فيه من الشدة والمشقة العظيمة، ولذا لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخير، وأول ما أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة "إذا جاء نصر الله والفتح" فإن المراد من هذه السورة أنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجا، فقد قرب أجلك، فتهيأ للقائنا بالتحية والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة والتبليغ، وما عندنا خير لك من الدنيا فاستعد للنقلة إلينا، وقد قيل: إن هذه السورة آخر سورة نزلت يوم النحر، وهو -صلى الله عليه وسلم- بمنى في حجة الوداع، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوما، وعند nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: عاش بعدها تسع ليال، وعن مقاتل: سبعا، وعن بعضهم: ثلاثا، nindex.php?page=showalam&ids=12201ولأبي يعلى من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر: nindex.php?page=hadith&LINKID=3503199نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع.