اعلم أن أنوار البصائر المستفادة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن مناهج الاعتبار تعرفنا أحوال الموتى على الجملة وانقسامهم إلى سعداء وأشقياء ولكن حال زيد وعمرو بعينه فلا ينكشف بذلك أصلا ؛ فإنا إن عولنا على إيمان زيد وعمرو فلا ندري على ماذا مات وكيف ختم له وإن عولنا على صلاحه الظاهر فالتقوى محله القلب وهو غامض يخفى على صاحب التقوى فكيف على غيره فلا حكم لظاهر الصلاح دون التقوى الباطن قال الله تعالى : إنما يتقبل الله من المتقين فلا يمكن معرفة حكم زيد وعمرو إلا بمشاهدته ومشاهدة ما يجري عليه ، وإذا مات فقد تحول من عالم الملك والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت فلا يرى بالعين الظاهرة وإنما يرى بعين أخرى خلقت تلك العين في قلب كل إنسان ولكن الإنسان جعل عليها غشاوة كثيفة من شهواته وأشغاله الدنيوية فصار لا يبصر بها ولا يتصور أن يبصر بها شيئا من عالم الملكوت ما لم تنقشع تلك الغشاوة عن عين قلبه .
ولما كانت الغشاوة منقشعة عن أعين الأنبياء عليهم السلام فلا جرم نظروا إلى الملكوت وشاهدوا عجائبه ، والموتى في عالم الملكوت فشاهدوهم وأخبروا ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضغطة القبر في حق nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ وفي حق زينب ابنته وكذلك حال أبي جابر لما استشهد إذ أخبره أن الله أقعده بين يديه ليس بينهما ستر ومثل هذه المشاهدة لا مطمع فيها لغير الأنبياء والأولياء الذين تقرب درجتهم منهم .
إنما الممكن من أمثالنا مشاهدة أخرى ضعيفة إلا أنها أيضا مشاهدة نبوية وأعني بها المشاهدة في المنام وهي من أنوار النبوة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، وهو أيضا انكشاف لا يحصل إلا بانقشاع الغشاوة عن القلب ؛ فلذلك لا يوثق إلا برؤيا الرجل الصالح الصادق ومن كثر كذبه لم تصدق رؤياه ومن كثر فساده ومعاصيه أظلم قلبه ؛ فكان ما يراه أضغاث أحلام ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطهارة عند النوم لينام طاهرا وهو إشارة إلى طهارة الباطن أيضا فهو الأصل وطهارة الظاهر بمنزلة التتمة والتكملة لها ، ومهما صفا الباطن انكشف في حدقة القلب ما سيكون في المستقبل كما انكشف دخول مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم حتى نزل قوله تعالى : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق وقلما يخلوا الإنسان عن منامات دلت على أمور فوجدها صحيحة ، والرؤيا ومعرفة الغيب في النوم من عجائب صنع الله تعالى وبدائع فطرة الآدمي ، وهو من أوضح الأدلة على عالم الملكوت ، والخلق غافلون عنه كغفلتهم عن سائر عجائب القلب وعجائب العالم ، والقول في حقيقة الرؤيا من دقائق علوم المكاشفة ، فلا يمكن ذكره علاوة على علم المعاملة ، ولكن القدر الذي يمكن ذكره ههنا مثال يفهمك المقصود ، وهو أن تعلم أن القلب مثاله مثال مرآة تتراءى فيها الصور وحقائق الأمور وأن كل ما قدره الله تعالى من ابتداء خلق العالم إلى آخره مسطور ومثبت في خلق خلقه الله تعالى يعبر عنه تارة باللوح ، وتارة بالكتاب المبين ، وتارة بإمام مبين كما ورد في القرآن فجميع ما جرى في العالم وما سيجري مكتوب فيه ومنقوش عليه نقشا لا يشاهد بهذه العين ، ولا تظنن أن ذلك اللوح من خشب أو حديد أو عظم وأن الكتاب من كاغد أو رق . بل ينبغي أن تفهم قطعا أن لوح الله لا يشبه لوح الخلق وكتاب الله لا يشبه كتاب الخلق كما أن ذاته وصفاته لا تشبه ذات الخلق وصفاتهم ، بل إن كنت تطلب له مثالا يقربه إلى فهمك فاعلم أن ثبوت المقادير في اللوح يضاهي ثبوت كلمات القرآن وحروفه في دماغ حافظ القرآن وقلبه ، فإنه مسطور فيه حتى كأنه حين يقرؤه ينظر إليه ولو فتشت دماغه جزءا جزءا لم تشاهد من ذلك الخط حرفا وإن كان ليس هناك خط يشاهد ولا حرف ينظر ، فمن هذا النمط ينبغي أن تفهم كون اللوح منقوشا بجميع ما قدره الله تعالى وقضاه واللوح في المثال كمرآة ظهر فيها الصور ، فلو وضع في مقابلة المرآة مرآة أخرى لكانت صورة تلك المرآة تتراءى في هذه إلا أن يكون بينهما حجاب فالقلب مرآة تقبل رسوم العلم ، واللوح مرآة رسوم العلم كلها موجودة فيها واشتغال ، القلب بشهواته ومقتضى حواسه حجاب مرسل بينه وبين مطالعة اللوح اللوح الذي هو من عالم الملكوت ، فإن هبت ريح حركت هذا الحجاب ورفعته تلألأ في مرآة القلب شيء من عالم الملكوت كالبرق الخاطف وقد يثبت ويدوم وقد لا يدوم وهو الغالب ، وما دام متيقظا فهو مشغول بما تورده الحواس عليه من عالم الملك والشهادة ، وهو حجاب عن عالم الملكوت .
ومعنى النوم أن تركد الحواس عليه فلا تورد على القلب ، فإذا تخلص منه ومن الخيال وكان صافيا في جوهره ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ فوقع في قلبه شيء مما في اللوح كما تقع الصورة من مرآة في مرآة أخرى إذا ارتفع الحجاب بينهما إلا أن النوم مانع سائر الحواس عن العمل ، وليس مانعا للخيال عن عمله وعن تحركه فما يقع في القلب يبتدره الخيال فيحاكيه بمثال يقاربه ، وتكون المتخيلات أثبت في الحفظ من غيرها فيبقى الخيال في الحفظ ، فإذا انتبه لم يتذكر إلا الخيال ، فيحتاج المعبر أن ينظر إلى هذا الخيال حكاية ؛ أي : معنى من المعاني فيرجع إلى المعاني بالمناسبة التي بين المتخيل والمعاني ، وأمثلة ذلك ظاهرة عند من نظر في علم التعبير ، ويكفيك مثال واحد وهو أن رجلا قال لابن سيرين رأيت كأن بيدي خاتما أختم به أفواه الرجال وفروج النساء فقال أنت مؤذن تؤذن قبل الصبح في رمضان قال : صدقت فانظر أن روح الختم هو المنع ولأجله يراد الختم ، وإنما ينكشف للقلب حال الشخص من اللوح المحفوظ كما هو عليه وهو كونه مانعا للناس من الأكل والشرب ولكن الخيال ألف المنع عند الختم بالخاتم فتمثله بالصورة الخيالية التي تتضمن روح المعنى ولا يبقى في الحفظ إلا الصورة الخيالية .
فهذه نبذة يسيرة من بحر علم الرؤيا الذي لا تنحصر عجائبه وكيف لا وهو أخو الموت وإنما الموت هو عجب من العجائب ؛ وهذا لأنه يشبهه من وجه ضعيف أثر في كشف الغطاء عن عالم الغيب حتى صار النائم يعرف ما سيكون في المستقبل ، فماذا ترى في الموت الذي يخرق الحجاب ويكشف الغطاء بالكلية حتى يرى الإنسان عند انقطاع النفس من غير تأخير نفسه إما محفوفة بالأنكال والمخازي والفضائح نعوذ بالله من ذلك وإما مكنوفا بنعيم مقيم وملك كبير لا آخر له وعند هذا يقال للأشقياء وقد انكشف الغطاء : لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ، ويقال أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون وإليهم الإشارة بقوله تعالى : وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون فأعلم العلماء وأحكم الحكماء ينكشف له عقيب الموت من العجائب والآيات ما لم يخطر قط بباله ، ولا اختلج به ضميره ، فلو لم يكن للعاقل هم وغم إلا الفكرة في خطر تلك الحال أن الحجاب عماذا يرتفع ؟ وما الذي ينكشف عنه الغطاء من شقاوة لازمة أم سعادة دائمة ؟ لكان ذلك كافيا في استغراق جميع العمر .
والعجب من غفلتنا وهذه العظائم بين أيدينا وأعجب من ذلك فرحنا بأموالنا وأهلينا وبأسبابنا وذريتنا بل بأعضائنا وسمعنا وبصرنا مع أنا نعلم مفارقة جميع ذلك يقينا ولكن أين من ينفث روح القدس في روعه فيقول له : ما قال لسيد النبيين nindex.php?page=hadith&LINKID=933112أحبب من أحببت فإنك مفارقه ، وعش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزي به فلا جرم لما كان ذلك مكشوفا له بعين اليقين كان في الدنيا كعابر سبيل لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ولم يخلف دينارا ولا درهما ولم يتخذ حبيبا ولا خليلا ، نعم ، قال : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الرحمن فبين أن خلة الرحمن تخللت باطن قلبه ، وأن حبه تمكن من حبة قلبه فلم يترك فيه متسعا لخليل ولا لحبيب وقد قال لأمته : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فإنما أمته من اتبعه وما اتبعه إلا من أعرض عن الدنيا وأقبل على الآخرة ؛ فإنه ما دعا إلا إلى الله واليوم الآخر وما صرف إلا عن الدنيا والحظوظ العاجلة ، فبقدر ما أعرضت عن الدنيا وأقبلت على الآخرة ، فقد سلكت سبيله الذي سلكه ، وبقدر ما سلكت سبيله فقد اتبعته وبقدر ما اتبعته ، فقد صرت من أمته وبقدر ما أقبلت على الدنيا عدلت عن سبيله ورغبت عن متابعته والتحقت بالذين قال الله تعالى فيهم : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى فلو خرجت من مكمن الغرور وأنصفت نفسك يا رجل وكلنا ذلك الرجل لعلمت أنك من حين تصبح إلى حين تمسي لا تسعى إلا في الحظوظ العاجلة ولا تتحرك ولا تسكن إلا لعاجل الدنيا ثم تطمع أن تكون غدا من أمته وأتباعه وما أبعد ظنك وما أبرد طمعك ! أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ولنرجع إلى ما كنا فيه وبصدده فقد امتد عنان الكلام إلى غير مقصده ولنذكر الآن من المنامات الكاشفة لأحوال الموتى ما يعظم الانتفاع به إذ ذهبت النبوة وبقيت المبشرات وليس ذلك إلا المنامات .
(الباب الثامن: فيما عرف من أحوال الموتى بالمكاشفة في المنام)
(اعلم) بصرك الله تعالى بأنوار هدايته (إن أنوار البصائر المستفادة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من مناهج الاعتبار تعرفنا أحوال الموتى على الجملة وانقسامهم إلى سعداء وأشقياء ولكن حال زيد وعمرو) منهم (بعينه لا ينكشف به أصلا؛ فإنا إن عولنا على إيمان زيد فلا ندري على ماذا مات وكيف ختم له) عند موته (وإن عولنا على صلاحه الظاهر) فيما يبدو لنا (فالتقوى محلها القلب) كما ورد في الخبر: nindex.php?page=hadith&LINKID=941457التقوى هنا. وأشار إلى القلب (وهو غامض يخفى على صاحب التقوى) بنفسه فكيف على غيره؟! (بلا حكم لظاهر الصلاح دون التقوى الباطن قال الله تعالى: إنما يتقبل الله من المتقين فلا يمكن معرفة حكم زيد وعمرو إلا بمشاهدته ومشاهدة ما يجري عليه، وإذا مات فقد تحول من عالم الملك والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت فلا ترى العين الظاهرة) لقصورها (وإنما تدرك بعين أخرى خلقت تلك العين في قلب كل إنسان) وهي عين البصيرة (ولكن الإنسان جعل عليها غشاوة كثيفة من شهواته وأشغاله الدنيوية فصار لا يبصر بها) إذا صارت محجوبة (ولا يتصور أن يبصر بها شيئا من عالم الملكوت ما لم تنقشع تلك الغشاوة عن عين قلبه) بالتهذيب والتصفية (ولما كانت الغشاوة منقشعة عن أعين الأنبياء عليهم السلام) من أصل الفطرة (فلا جرم نظروا إلى الملكوت وشاهدوا عجائبه، والموتى عالم الملكوت فشاهدوهم وأخبروا) عن أحوالهم سعادة وشقاوة .
(ولذلك رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضغطة القبر في حق nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ ) -رضي الله عنه- (وفي حق زينب ابنته) -رضي الله عنها- كما تقدم في الذي قبله قريبا، وكذلك حال عبد الله بن حرام (أبي جابر) رضي الله عنهما (لما استشهد) بأحد (إذ أخبره أن الله) عز وجل (أقعده بين يديه ليس بينهما ستر) أي: حجاب كما تقدم في الذي قبله (ومثل هذه المشاهد لا مطمع فيها لغير الأنبياء) عليهم السلام (و) لغير (الأولياء الذين تقرب درجتهم منهم) أي: من الأنبياء (وإنما الممكن من أمثالنا مشاهدة أخرى ضعيفة إلا أنها أيضا مشاهدة نبوية وأعني به المشاهدة في المنام وهي من أنوار النبوة) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: nindex.php?page=hadith&LINKID=656474الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة . رواه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد، nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد والطيالسي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه من حديث أبي رزين وتقدم، زاد nindex.php?page=showalam&ids=14724الطيالسي : nindex.php?page=hadith&LINKID=696439وهي معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها.
وروى nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه nindex.php?page=showalam&ids=12119وأبو عوانة nindex.php?page=showalam&ids=13114وابن خزيمة من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بلفظ: nindex.php?page=hadith&LINKID=656468الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .
(وهو أيضا انكشاف لا يحصل إلا بانقشاع الغشاوة عن القلب؛ فلذلك لا يوثق إلا برؤيا الرجل الصالح) كما وقع به التقييد في حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس (الصادق) أي: الذي عود لسانه بالصدق (ومن كثر كذبه لم تصدق رؤياه) فإن كثرة الكذب موجبة للذنوب فقد روى العسكري في الأمثال من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر : من كثر كذبه كثرت ذنوبه، كانت النار أولى به. ومنشؤ ذلك من كثرة الكلام، وروى الديلمي من حديث [ ص: 425 ] nindex.php?page=showalam&ids=9أنس : أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا (ومن كثر فساده ومعاصيه) التي منشؤها كثرة الكذب (أظلم قلبه؛ فكان ما يراه أضغاث أحلام) لو وجد حجاب الظلمة على القلب فلا ينكشف له الأمر على حقيقته .
والأضغاث أنواع: الأول: تلاعب الشيطان ليحزن الرائي كأن يرى أنه قطع رأسه. والثاني: أن يرى بعض الأنبياء يأمر بمحرم أو محال. الثالث: ما تتحدث به النفس في اليقظة تمنيا فيراه كما هو في المنام (ولذلك أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالطهارة عند النوم لينام طاهرا) قال العراقي : متفق عليه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=48البراء : إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة .. الحديث. ا هـ .
(وهو إشارة إلى طهارة الباطن أيضا فهو الأصل وطهارة الظاهر بمنزلة التتمة والتكملة لها، ومهما صفا الباطن انكشف في حدقة القلب ما سيكون في المستقبل) من الحوادث الكونية (كما انكشف دخول مكة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النوم حتى نزل قوله تعالى: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ) لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم الآية، قال العراقي : رواه nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم في تفسيره من رواية nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد مرسلا. ا هـ .
قلت: ولفظه: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، فلما نحر الهدي بالحديبية، قال له أصحابه: أين رؤياك يا رسول الله؟ فأنزل الله تعالى: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق إلى قوله فجعل من دون ذلك فتحا قريبا فرجعوا ففتحوا خيبر، ثم اعتمر بعدد ذلك فكان تصديق رؤياه في السنة المقبلة، وهكذا رواه أيضا nindex.php?page=showalam&ids=14906الفريابي nindex.php?page=showalam&ids=16298وعبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في الدلائل وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=13507ابن مردويه عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال: كان تأويل رؤياهم في عمرة القضاء، وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة قال: أري في المنام أنهم يدخلون المسجد الحرام وأنهم آمنون ومحلقين رءوسهم ومقصرين .
(وقلما يخلو الإنسان من منامات دلت على أمور فوجدها صحيحة، والرؤيا ومعرفة الغيب في النوم من عجائب صنع الله تعالى وبدائع فطرة الآدمي، وهو من أوضح الأدلة على عالم الملكوت، والخلق غافلون عنه لغفلته عن سائر عجائب القلب وعجائب العالم، والقول في حقيقة الرؤيا من دقائق علوم المكاشفة، فلا يمكن ذكره علاوة على علم المعاملة، ولكن القدر الذي يمكن ذكره هنا مثال يفهمك المقصود، وهو أن تعلم أن القلب مثاله مثال مرآة تتراءى فيها الصور وحقائق الأمور) على ما هي عليه (وأن كل ما قدره الله تعالى من ابتداء خلق العالم إلى آخره مسطور ومثبت في خلق خلقه الله تعالى يعبر عنه تارة باللوح، وتارة بالكتاب المبين، وتارة بإمام مبين كما ورد) كل ذلك (في القرآن) والمعنى به واحد (فجميع ما جرى في العالم وما سيجري) فيما بعد (مكتوب فيه ومنقوش عليه نقشا لا يشاهد بهذه العين، ولا تظن أن ذلك اللوح من خشب أو حديد أو عظم) أو غير ذلك (وأن الكتاب من كاغد أو ورق) أو غير ذلك (بل ينبغي أن تفهم قطعا أن لوح الله لا يشبه لوح الخلق وكتاب الله لا يشبه كتاب الخلق كما أن ذاته وصفاته لا تشبه ذات الخلق وصفاتهم، بل إن كنت تطلب له مثالا يقربه إلى فهمك فاعلم أن ثبوت المقادير في اللوح يضاهي ثبوت كلمات القرآن وحروفه في دماغ حافظ القرآن وقلبه، فإنه مسطور فيه حتى كأنه حيث يقرؤه ينظر إليه ولو فتشت دماغه جزءا جزءا لم تشاهد من ذلك الخط حرفا، فمن هذا النمط ينبغي أن تفهم كون اللوح منقوشا بجميع ما قدره الله تعالى وقضاه واللوح [ ص: 426 ] في المثال كمرآة ظهر فيها الصور، فلو وضع في مقابلة المرآة مرآة أخرى لكانت تلك المرآة تتراءى في هذه إلا أن يكون بينهما حجاب) يمنع من الرؤية .
(فالقلب مرآة تقبل رسوم العلم، واللوح مرآة رسوم العلوم كلها موجودة فيها، وانشغال القلب بشهواته ومقتضى حواسه حجاب مرسل بينه وبين مطالعة اللوح الذي هو في عالم الملكوت، فإن هبت ريح حركت هذا الحجاب ورفعته تلألأ في مرآة القلب شيء من عالم الملكوت كالبرق الخاطف وقد يثبت ويدوم) وهو النادر (وقد لا يدوم) بل ينمحي بالكلية (وهو الغالب، وما دام متيقظا فهو مشغول بما تورده الحواس) الظاهرة والباطنة (عليه من عالم الملك والشهادة، وهو حجاب من عالم الملكوت، ومعنى النوم أن تركد الحواس) أي: تسكن (فلا تورد على القلب، فإذا تخلص منه ومن الخيال وكان صافيا في جوهره ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ فوقع في قلبه شيء مما في اللوح كما تقع الصورة من مرآة في مرآة أخرى إذا ارتفع الحجاب بينهم إلا أن النوم مانع سائر الحواس عن العمل، وليس مانعا للخيال عن عمله وتحركه فما يقع في القلب يبتدره الخيال فيحاكيه بمثال يقاربه، وتكون المتخيلات أثبت في الحفظ من غيرهما فيبقى الخيال في الحفظ، فإذا أثبته لم يتذكر إلا الخيال، فيحتاج المعبر أن ينظر إلى هذا الخيال حكاية؛ أي: معنى من المعاني فيرجع إلى المعاني بالمناسبة التي بين المتخيل والمعاني، وأمثلة ذلك ظاهرة عند من نظر في علم التعبير، ويكفيك مثال واحد وهو أن رجلا قال nindex.php?page=showalam&ids=16972لابن سيرين ) وهو إمام المعبرين (رأيت كان بيدي خاتما أختم به أفواه الرجال وفروج النساء فقال) في تعبيره (أنت مؤذن) في مسجد القوم (تؤذن قبل الصبح في رمضان) فيمتنعون ذلك من الأكل والشرب والجماع (قال: صدقت فنظر إلى روح الختم وهو المنع ولأجله يراد الختم، وإنما ينكشف للقلب حال الشخص من اللوح المحفوظ كما هو عليه وكونه مانعا للناس من الأكل والشرب) والجماع (ولكن الخيال ألف المنع عند الختم بالخاتم بالصورة الخيالية التي تضمن روح المعنى ولا يبقى في الحفظ إلا الصورة الخيالية، فهذه نبذة يسيرة من بحر علم الرؤيا الذي لا تنحصر عجائبه وكيف لا وهو) أي: النوم (أخو الموت) .
وقد روى nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=36جابر : nindex.php?page=hadith&LINKID=914208النوم أخو الموت ولا يموت أهل الجنة (وإنما الموت هو عجب من العجائب؛ وهذا لأنه يشبهه من وجه ضعيف أثر في كشف الغطاء عن عالم الغيب حتى صار النائم يعرف ما سيكون في المستقبل، فماذا ترى في الموت الذي يخرق الحجاب ويكشف الغطاء بالكلية حتى يرى الإنسان عند انقطاع النفس من غير تأخير) أي: متصلا بالانقطاع (نفسه محفوفة بالأنكال والمخازي والفضائح نعوذ بالله من ذلك وإما مكنوفا بنعيم مقيم وملك كبير لا آخر له) كما وردت به الآثار وتقدم في ذكر بعضها (وعند هذا يقال للأشقياء وقد انكشف الغطاء: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ، ويقال) لهم أيضا ( أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها ) أي: النار ( فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون وإليهم الإشارة بقوله تعالى: وبدا لهم من الله [ ص: 427 ] ما لم يكونوا يحتسبون ) أي: ما لم يكن لهم في حسبانهم (فأعلم العلماء وأحكم الحكماء ينكشف له عقيب الموت من العجائب والآيات ما لم يخطر قط بباله، ولا اختلج به ضميره، فلو لم يكن للعاقل هم وغم إلا الفكرة في خطر تلك الحال أن الحجاب عماذا يرتفع؟ وما الذي ينكشف عنه الغطاء من شقاوة لازمة أم سعادة دائمة؟ لكان ذلك كافيا في استغراق جميع العمر والعجب من غفلتنا وهذه العظائم بين أيدينا) ولا بد لك منها .
فقد تقدم الكلام عليه (وقد قال تعالى لأمته: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) فجعل محبته موجبة لمحبة الله تعالى (فإنما أمته من اتبعه) وسلك منهاجه (وما اتبعه إلا من أعرض عن الدنيا وأقبل على الآخرة؛ فإنه ما دعا إلا إلى الله واليوم الآخر وما صرف إلا عن الدنيا والحظوط العاجلة، فبقدر ما أعرضت عن الدنيا وأقبلت على الآخرة، فقد سلكت سبيله الذي سلكه، وبقدر ما سلكت سبيله فقد اتبعته، وبقدر ما اتبعته فقد صرت من أمته) على الحقيقة (وبقدر ما أقبلت على الدنيا عدلت عن سبيله ورغبت عن متابعته والتحقت بالذين قال الله تعالى فيهم: فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى فلو خرجت من مكمن الغرور وأنصفت نفسك يا رجل وكلنا ذلك الرجل) أي: كلنا داخلون تحت هذا الخطاب (لعلمت أنك حين تصبح إلى حين تمسي لا تسعى إلا في الحظوظ العاجلة ولا تتحرك ولا تسكن إلا لعاجل الدنيا) ولا يخطر ببالك أمر من أمور الآخرة .