يا أيها الغافل عن نفسه ، المغرور بما هو فيه من شواغل هذه الدنيا المشرفة على الانقضاء ، والزوال ، دع التفكر فيما أنت مرتحل عنه واصرف الفكر إلى موردك فإنك أخبرت بأن النار مورد للجميع إذ قيل : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا فأنت من الورود على يقين ، ومن النجاة في شك فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد ، فعساك تستعد للنجاة منه ، وتأمل في حال الخلائق ، وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا ، فبينما هم في كربها ، وأهوالها ، وقوفا ، ينتظرون حقيقة أنبائها وتشفيع ، شفعائها ، إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب وأظلت عليهم نار ذات لهب وسمعوا لها زفيرا وجرجرة ، تفصح عن شدة الغيظ ، والغضب فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب وجثت الأمم على الركب حتى أشفق البرآء من سوء المنقلب ، وخرج المنادي من الزبانية قائلا : أين فلان بن فلان ؟ المسوف نفسه في الدنيا بطول الأمل ، المضيع عمره في سوء العمل ، فيبادرونه بمقامع من حديد ويستقبلونه بعظائم التهديد ويسوقونه إلى العذاب الشديد ، وينكسونه في قعر الجحيم ويقولون له ذق إنك أنت العزيز الكريم ، فأسكنوا دارا ضيقة الأرجاء مظلمة المسالك ، مبهمة المهالك ، يخلد فيها الأسير ويوقد ، فيها السعير ، شرابهم فيها الحميم ومستقرهم الجحيم ، الزبانية تقمعهم والهاوية تجمعهم أمانيهم فيها الهلاك ، وما لهم منها فكاك قد شدت أقدامهم إلى النواصي ، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي ، ينادون من أكنافها ويصيحون في نواحيها ، وأطرافها : يا مالك قد حق علينا الوعيد يا مالك قد أثقلنا الحديد ، يا مالك قد نضجت منا الجلود ، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود فتقول الزبانية : هيهات ، لات حين أمان ، ولا خروج لكم من دار الهوان فاخسؤوا ، فيها ولا تكلمون ، ولو أخرجتم منها لكنتم إلى ما نهيتم عنه تعودون ، فعند ذلك يقنطون وعلى ما فرطوا في جنب الله يتأسفون ، ولا ينجيهم الندم ، ولا يغنيهم الأسف ، بل يكبون على وجوههم مغلولين النار من فوقهم ، والنار من تحتهم ، والنار عن أيمانهم ، والنار عن شمائلهم فهم غرقى في النار ، طعامهم نار ، وشرابهم نار ، ولباسهم نار ، ومهادهم نار ، فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع ، وثقل السلاسل ، فهم يتجلجلون في مضايقها ويتحطمون ، في دركاتها ويضطربون بين غواشيها تغلي بهم النار كغلي القدور ويهتفون بالويل والعويل .
ومهما دعوا بالثبور صب من فوق رؤسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود ، ولهم مقامع من حديد ، تهشم بها جباههم فيتفجر الصديد من أفواههم وننقطع ، من العطش أكبادهم ، وتسيل على الخدود أحداقهم ، ويسقط من الوجنات لحومها ويتمعط من الأطراف شعورها ، بل جلودها ، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها قد عريت من اللحم عظامهم ، فبقيت الأرواح منوطة بالعروق ، وعلائق العصب ، وهي تنش في لفح تلك النيران ، وهم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون فكيف بك لو نظرت إليهم وقد سودت وجوههم أشد سوادا من الحميم وأعميت أبصارهم ، وأبكمت ألسنتهم ، وقصمت ظهورهم ، وكسرت عظامهم ، وجدعت آذانهم ، ومزقت جلودهم ، وغلت أيديهم إلى أعناقهم وجمع بين نواصيهم وأقدامهم وهم يمشون على النار بوجوههم ويطؤون ، حسك الحديد بأحداقهم ، فلهيب النار سار في بواطن أجزائها ، وحيات الهاوية وعقاربها متشبثة بظواهر أعضائهم هذا بعض ، جملة أحوالهم .
(القول في صفة جهنم، وأهوالها، وأنكالها)
أعاذنا الله والمسلمين منها، وجهنم بتشديد النون: اسم لنار الآخرة، من الجهامة، وهي كراهة المنظر، قيل: فارسي معرب، أصله جهنام، وقيل: عربي; سميت به نار الآخرة لبعد قعرها، من قولهم: بئر جهنام: أي: بعيد القعر، والأهوال: الشدائد، والأنكال: أنواع العذاب: (أيها الغافل عن نفسه، المغرور بما هو فيه من شواغل هذه الدنيا) ، الدنية، (المشرفة [ ص: 510 ] على الانقضاء، والزوال، دع التفكر فيما أنت مرتحل عنه) عن قرب، وكان قد، (واصرف الفكر إلى موردك) ، أي: محل ورودك، (فإنك) قد (أخبرت) على لسان الصادق المصدوق، (بأن النار مورد للجميع ) أي: ممر، أو مدخل، على اختلاف في معنى الورود، (إذ قيل: وإن منكم إلا واردها) أي: داخلها، أو مار عليها، أو واصلها، وحاضر دونها، (كان على ربك حتما مقضيا) أي: كان ذلك الورود واجبا، أوجبه الله على نفسه، وقضى بأن وعد به وعدا لا يمكن تخلفه، وقيل: أقسم عليه، (ثم ننجي الذين اتقوا) فيساقون إلى الجنة، وقرئ: ثم، بفتح الثاء، أي: هناك (ونذر الظالمين) على أنفسهم، أي: نتركهم (فيها) ، أي: في النار، (جثيا) منهارة بهم كما كانوا، وهو دليل على أن المراد بالورود: الجثو حواليها، وأن المؤمنين يفارقون الفجرة إلى الجنة بعد تجاثيهم، ويبقى الفجرة فيها منهار بهم على هيآتهم، (وأنت من الورود على يقين، ومن النجاة في شك) ، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب الخوف والرجاء .
(فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد، فعساك تستعد للنجاة منه، وتأمل في حال الخلائق، وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها، وأهوالها، وقوفا، ينتظرون حقيقة أنبائها، بشفيع شفعائها، إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات الشعب) الثلاثة، في مقابلة الحس، والخيال، والوهم، (وأظلت عليهم نار ذات لهب) ، أي: التهاب، وتلك الظلمات من دخان جهنم; وإنما تتشعب لعظمها، (وسمعوا لها زفيرا) ، أي: ترديد نفس، (وجرجرة، تفصح عن شدة الغيظ، والغضب) ، كما قال تعالى: سمعوا لها تغيظا وزفيرا وقال تعالى: تكاد تميز من الغيظ (فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب) ، أي: الهلاك، (وجثت الأمم على الركب) ، كما قال تعالى: وترى كل أمة جاثية (حتى أشفق) ، أي: خاف (البرآء) ، جمع بريء، وهو من لم يذنب، (من سوء المنقلب، وخرج المنادي من الزبانية) ، وهم خزنة النار، (قائلا: أين فلان بن فلان؟ المسوف نفسه في الدنيا بطول الأمل، المضيع عمره في سوء العمل، فيبادرونه بمقامع) ، جمع المقمعة، بكسر الميم، وهي خشبة يضرب بها الإنسان على رأسه; ليذل ويهان، ثم بين أن تلك المقامع (من حديد) ، وهو أقوى من مقامع الخشب، (ويستقبلونه بعظائم التهديد) ، أو التخويف، والزجر، (ويسوقونه) ذليلا، مهانا، مجرجرا (إلى العذاب الشديد، وينكسونه في قعر الجحيم) ، أي: يجعلون رأسه في القعر، ورجليه إلى فوق، (ويقولون له) من باب التهكم: ( ذق إنك أنت العزيز الكريم، فأسكنوا دارا ضيقة الأرجاء) ، أي: الجوانب، ( مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير، ويؤبد فيها السعير، شرابهم فيها الحميم ) ، أي: الماء الحار، (ومستقرهم الجحيم، الزبانية تقمعهم) ، أي: تضربهم بالمقامع، (والهاوية تجمعهم) ; لأنها أمهم، (أمانيهم فيها الهلاك، وما لهم منها فكاك) ، أي: خلاص، (قد شدت أقدامهم) مجموعة (إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، ينادون من أكنافها) ، أي: جوانبها، (ويصيحون في نواحيها، وأطرافها: يا مالك) ، وهو رئيس خزنة النار، (قد حق علينا الوعيد) ، أي: ثبت، ووجب، (يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا جلودنا، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود) إلى ما كنا فيه، (وتقول الزبانية: هيهات، لات حين أمان، ولا خروج لكم من دار الهوان، فاخسؤوا فيها ولا تكلمون، ولو أخرجتم منها لكنتم إلى ما نهيتم عنه تعودون، فعند ذلك يقنطون) ، ولا ينطقون، (وعلى ما فرطوا في جنب الله يتأسفون، ولا ينجيهم الندم، ولا يغنيهم الأسف، بل يكبون على وجوههم) ، ومناخرهم، (مغلولين) ، مقيدين، (النار من فوقهم، والنار من تحتهم، والنار عن أيمانهم، والنار عن شمائلهم) ، قد أحاطت بجوانبهم الأربعة، (فهم غرقى في بحر النار، طعامهم نار، وشرابهم نار، ولباسهم [ ص: 511 ] نار، ومهادهم نار، فهم بين مقطعات النيران) ، جمع مقطعة، وهي الجبب الضيقة الأكمام، (وسرابيل القطران) ، جمع سربال، بالكسر، قميص أو درع، والقطران: ما يتحلب من شجر الأبهل عند طبخه، ويطلى به الإبل وغيرها، وفيه لغات، فتح القاف وكسر الطاء، وبه قرأ السبعة في قوله تعالى: سرابيلهم من قطران والثانية: كسر القاف وسكون الطاء، (وضرب المقامع، وثقل السلاسل، فهم يتجلجلون) ، أي: يضطربون (في مضايقها، يتحطمون) ، أي: يتكسرون (في دركاتها) ، أو يدفعون (ويضطربون بين غواشيها) ، أي: أطرافها، (تغلي بهم النار كغلي القدور) على النيران، (ويهتفون بالويل والعويل، ومهما دعوا بالثبور صب من فوق رؤسهم الحميم، يصهر به) ، أي: يذوب به (ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد، تهشم بها جباههم) ، أي: تكسرها .
(فيتفجر الصديد من أفواههم، وتنقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود أحداقهم، ويسقط من الوجنات لحومها) ، والوجنة: ما ارتفع من الخد، والأشهر: فتح الواو، وحكي التثليث، والجمع وجنات، كسجدة، وسجدات، (ويتمعط) ، أي: يتساقط (من الأطراف شعورها، بل جلودها، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها) ; ليتضاعف العذاب مجددا، (وعريت من اللحم عظامهم، فبقيت الأرواح منوطة بالعروق، وعلائق العصب، وهي تنش) ، أي: تيبس (في لفح تلك النيران، وهم مع ذلك يتمنون الموت) ، الذي هو أيضا هائل; للخروج من تلك الأهوال، والخلاص منها، (فكيف بك لو نظرت إليهم وقد اسودت وجوههم) من لفح تلك النيران، (أشد سوادا من الحمم) ، أي: الفحم، (وأعميت أبصارهم، وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم، وكسرت عظامهم، وجدعت) ، أي: قطعت (آذانهم، وأنوفهم، ومزقت جلودهم، وغلت أيديهم إلى أعناقهم) بالجامعة، (وجمع بين نواصيهم وأقدامهم) ، أي: مجموعة إليها، (وهم يمشون على النار بوجوههم، ويطؤن حسك الحديد بأحداقهم، فلهيب النار سار في بواطن أجزائهم، وحيات الهاوية وعقاربها متشبثة بظواهر أعضائهم، هذه جملة أحوالهم) ، أي: بطريق الإجمال .