أيضا من جملة ما يجب لله كالصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم طلب الحلال فريضة بعد فريضة وليس هذا مناقضا لقولنا إن الإرث حكم الإسلام ، وهو الاستسلام بل الاستسلام التام هو ما يشمل الظاهر والباطن ، وهذه مباحث فقهية ظنية تبنى على ظواهر الألفاظ والعمومات والأقيسة فلا ينبغي أن يظن القاصر في العلوم أن المطلوب فيه القطع من حيث جرت العادة بإيراده في فن الكلام الذي يطلب فيه القطع فما أفلح من نظر إلى العادات والمراسم في العلوم .
(أيضا من جملة ما يجب لله كالصلاة) ، أي حكمه كحكمها، فإن قيل: الإسلام هو الانقياد الظاهر، كما سبق، والرجل المذكور قد ثبت له ذلك، فيجوز الميراث; نظرا إلى الظاهر، وليس هو من أحكام الإيمان فيكون مناقضا لقول الفقهاء: الإرث حكم الإسلام، والجواب ما أشار إليه المصنف بقول: (وليس هذا) الذي أوردناه (مناقضا) ومخالفا (لقولنا) معاشر الفقهاء: (إن الإرث حكم الإسلام، وهو) أي الإسلام (استسلام) وانقياد للظاهر (بل الاستسلام التام) المعتبر عندهم (ما يشمل الظاهر، و) يعم (الباطن) فهذه الملاحظة إذا خالف الباطن الظاهر، وعمل بهذه المخالفة تشبثا بالظاهر يكون مؤاخذا عند الله تعالى .
(وهذه مباحث فقهية ظنية) وليس في كلها ما يجب القطع به; لأنها (تبنى على ظواهر الألفاظ) وما توجبه بحسب الوضع اللغوي، (و) على (العمومات) الواردة في الصيغ من الاشتراك في الصفات، (و) على (الأقيسة) بأنواعها، والقياس عند أهل الأصول إلحاق معلوم بمعلوم في حكمه; لمساواة الأول للثاني في علة حكمه، (فلا ينبغي أن يظن القاصد) للتحصيل (القاصر في العلوم) عن درجة أهل التحقيق والنظر، وبين القاصد والقاصر جناس (أن المطلوب فيه القطع) والجزم على اليقين، (من حيث جرت العادة) واطردت (بإيراده في فن الكلام الذي يطلب فيه القطع) ; لأن الكلام فيه عن مسائل اعتقادية، وهي لا تثبت إلا بالدلائل القطعية .
(فما أفلح من نظر إلى العادات) المألوفة (والمراسم) الظاهرية (في العلوم) .
وهنا مسائل مهمة، ينبغي التنبيه عليها، منها: اتفق القائلون بعدم اعتبار الإقرار على أنه يلزم المصدق أن يعتقد أنه متى طولب به أتى به، فإن طولب به، ولم يقر فهو كفر عناد، وبهذا فسروا ترك العناد، وقالوا: هو شرط .
ومنها على القول: بأن مسمى الإيمان التصديق بالقلب، كما هو قول nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري، والماتريدي أو بالقلب واللسان، كما هو مذهب الحنفية، فقد ضم إليه في تحقيق الإيمان أمورا، الإخلال بها إخلال بالإيمان اتفاقا; كترك كل من سجود الصنم، وقتل نبي، أو استخفاف به وبالمصحف والكعبة، وكذا مخالفة كل ما أجمع عليه من أمور الدين، وإنكاره بعد العلم بأنه مجمع عليه. وقيد الإمام [ ص: 248 ] النووي إنكار المجمع عليه بما إذا كان فيه نص، ويشترك في معرفته الخاص والعام، لا كإنكار أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب، حيث لا عاصب فإنه مجمع عليه، وفيه نص، لكنه مما يخفى عن العوام، كذا نقله ابن حجر في التحفة .
وقال ابن الهمام: ظاهر كلام الحنفية الإكفار بجحده فإنهم لم يشرطوا فيه سوى القطع في الثبوت ويجب حمله على ما إذا علم المنكر بثبوته قطعا; لأن مناط التكفير عند ذلك يكون، أما إذا لم يعلم فلا، إلا أن يذكر له أهل العلم ذلك، فيلج ويتمادى اهـ .
ومما لا يعرفه إلا الخواص من المجمع عليه حرمة نكاح المعتدة للغير، وما لمثبته أو منكره تأويل، غير قطعي البطلان، أو بعد عن العلامة بحيث يخفى عليه ذلك، قال الإسفرايني: فإذا وجد شيء من الإخلالات السابق ذكرها دلنا على أن التصديق الذي هو الإيمان مفقود من قلبه; لاستحالة أن يقضي السمع بكفر من معه الإيمان; لأنه جمع للضدين، قال ابن الهمام: ولا يخفى أن بعض هذه الأمور التي تعمدها كفر قد توجد وصاحبها مصدق بالقلب، وإنما يصدر عنه لغلبة الهوى، فتعريف الإيمان بتصديق القلب فقط غير مانع لصدق التعريف، مع انتفاء الإيمان وبالله التوفيق .
ومنها المقطوع به في تحقيق معنى الإيمان أمور، الأول أنه وضع إلهي من عقائد وأعمال أمر الله به عباده اعتقادا وعملا، ورتب على فعله لازما لا يتخلف عنه، وهو ما شاء الله من خير بلا انقضاء، وهو سعادة الأبد، وعلى تركه ضده، وهو شقاوة الأبد، وهذا الضد لازم الكفر شرعا .
والأمر الثاني أن التصديق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحدانية وغيرها إذا كان على سبيل القطع، فهو بعض من مفهومه .
والأمر الثالث أنه قد اعتبر في ترتيب لازم الفعل وجود أمور عدمها مترتب ضده كتعظيم الله تعالى، وأنبيائه، وكتبه، وبيته، وكالانقياد إلى قبول أوامره ونواهيه، الذي هو معنى الإسلام، وقد اتفق الأشاعرة، والحنفية على تلازم الإيمان والإسلام، بمعنى أنه لا إيمان يعتبر بلا إسلام، ولا إسلام يعتبر بدون إيمان، فلا ينفك أحدهما عن الآخر، فيمكن اعتبار هذه الأمور التصديق، والإقرار، وعدم الإخلال بما ذكر أجزاء لمفهوم الإيمان، فيكون انتفاء ذلك اللازم الذي هو ما شاء تعالى من خير بلا انقضاء عند انتفائها لانتفاء الإيمان بانتفاء أجزائه، وإن وجد جزؤه الذي هو التصديق، وغاية ما فيه أنه نقل عن مفهومه اللغوي، الذي هو مجرد التصديق إلى مجموع أمور اعتبرت جملتها ووضع بإزائها لفظ الإيمان التصديق جزء منها .
قال ابن الهمام: ولا بأس بهذا القول وإن كان المختار خلافه فإنا قاطعون بأنه لم يبق على حاله الأول، قد اعتبر الإيمان شرعا تصديقا خاصا، وهو ما يكون بأمور خاصة، واعتبر فيه أيضا شرعا أن يكون بالغا حد العلم، وإلا فالجزم الذي لا يجوز معه ثبوت النقيض سواء كان الموجب من حس أو عقل، أو عادة، وهو العلم أولا لموجب كاعتقاد المقلد، وهو في اللغة أعم من ذلك، ويمكن اعتبار هذه الأمور المذكورة شروطا لاعتباره شرعا فينتفي أيضا لانتفائها مع وجود التصديق بمحلية القلب واللسان; إذ الشرط يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يمكن اعتبارها شرعا شروطا; لثبوت اللازم الشرعي فقط دون ملزومه، وهو الإيمان فينتفي عند انتفائها مع قيام ملزوم وهو الإيمان; لأن الفرض أن عند انتفائها يثبت ضد لازم الإيمان، وهو لازم الكفر فيثبت ملزومه وهو الكفر، وبالله التوفيق .
ومنها أن الاستدلال الذي به يكتسب التصديق القلبي ليس شرطا لصحة الإيمان على المختار حتى صححوا إيمان المقلد، ومنعه المعتزلة، ونقل عن nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري، وقال أبو القاسم القشيري: هو افتراء عليه، وقل أن يرى مقلد في الإيمان بالله تعالى; إذ كلام العوام في الأسواق محشو بالاستدلال بالحوادث على وجوده وصفاته، والتقليد مثلا أن يسمع الناس يقولون: إن للخلق ربا خلقهم، وخلق كل شيء ويستحق العبادة عليهم وحده لا شريك له، فيجزم بذلك لجزمه بصحة إدراك هؤلاء; تحسينا لظنه بهم وتعظيما لشأنهم عن الخطأ، فإذا حصل عن ذلك جزم لا يجوز معه كون الواقع النقيض، فقد قام بالواجب من الإيمان، إذ لم يبق سوى الاستدلال على حصول ذلك الجزم، فإذا حصل ما هو المقصود منه، فقد تم قيامه بالواجب، ومقتضى هذا التعليل أن لا يكون عاصيا بعدم الاستدلال; لأن وجوبه إنما كان ليحصل ذلك الجزم، فإذا حصل سقط وجوبه الذي هو وسيلة إذ [ ص: 249 ] لا معنى لاستحصال المقصود بالوسيلة بعد حصوله دونها غير أن بعضهم، ذكر الإجماع على عصيانه بترك الاستدلال فإن صح فبسبب أن التقليد عرضة لعروض التردد بعروض شبهة له بخلاف الاستدلال المحصل للجزم، فإن فيه حفظه .
ومما يدل أيضا على قيام المقلد بالواجب من الإيمان أن الصحابة رضي الله عنهم- كانوا يقبلون إيمان عوام الأمصار التي فتحوها من العجم تحت السيف ولات حال استدلال، أو لموافقة بعضهم بعضا، بأن يسلم زعيم منهم مثلا فيوافقه غيره، وتجويز حملهم إياهم على الاستدلال بعيد في بعض الأحوال، التي إذا نقلت يكاد يجزم العقل بعدم الاستدلال معها، وبالله التوفيق .
وثانيا: الإيمان مكلف به، والتكليف إنما يقع بالأفعال الاختيارية، والعلم مما يثبت بلا اختيار كمن وقعت مشاهدته على من ادعى النبوة، وأظهر المعجزة بأن يشاهد كلا من الدعوى، وظهور المعجزة فلزم نفسه عند ذلك العلم بصدقه .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين في الإرشاد: التصديق على التحقيق كلام النفس ولكن لا يثبت إلا مع العلم، وكلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد، وإليه ذهب جماعة. ونقل صاحب الغنية عن nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري في معناه، فقال مرة: هو المعرفة بوجوده وإلاهيته وقدمه، وقال مرة: هو قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة، ولا يصح دونها، وارتضاه nindex.php?page=showalam&ids=12604الباقلاني فإن التصديق، والتكذيب والصدق والكذب بالأقوال أجدر منه بالمعارف والعلوم اهـ .
قال ابن الهمام: وظاهر عبارة nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري في هذا السياق أن التصديق كلام للنفس مشروط بالمعرفة، يلزم من عدمها عدمه، ويحتمل أن الإيمان هو المجموع من المعرفة، والكلام النفسي، فيكون كل منهما ركنا من الإيمان فلا ينافي تحقيق الإيمان على كلام الاحتمالين من المعرفة، أعني إدراك مطابقة دعوى النبي للواقع ومن أمر آخر هو الاستسلام الباطن، والانقياد لقبول الأوامر والنواهي، المستلزم للإجلال وعدم الاستخفاف، وهذا الاستسلام الباطن هو المراد بكلام النفس، وبه عبر المصنف في كلامه على الإيمان والإسلام .
وإنما قلنا: إنه لا بد مع المعرفة من الأمر الآخر، وهو الاستسلام الباطن لما تقدم من ثبوت مجرد تلك المعرفة، مع قيام الكفر، وبلا كسب واختيار فيه، وبلا قصد إليه ومع كونه يثبت بلا كسب واختيار فيه، وبلا قصد إليه يتعلق ظاهر التكليف به نحو قوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله والمراد اكتسبه بفعل أسبابه من القصد إلى النظر في الآثار على الوجه المؤدي إلى المقصود، حتى لو وقع العلم لإنسان دفعيا من غير ترتيب مقدمات احتاج إلى تحصيله مرة أخرى كسبا .
قال السعد في شرح المقاصد: اعلم أن حصول هذا التصديق قد يكون بالكسب، أي مباشرة الأسباب بالاختيار كإلقاء الذهن وصرف النظر، وتوجبه الحواس، وما أشبه ذلك، وقد يكون بدون، كمن وقع عليه الضوء، فعلم أن الشمس طالعة، والمأمور به يجب أن يكون من القسم الأول. ثم قال: لا يفهم من نسبة الصدق إلى المتكلم بالقلب سوى إذعانه، وقبوله، وإدراكه لهذا المعنى، أعني كون المتكلم صادقا من غير أن يتصور هناك فعل وتأثير من القلب، ويقطع بأن هذا كيفية للنفس قد يحصل بالكسب والاختيار، ومباشرة الأسباب، وقد يحصل بدونها فغاية الأمر أن يشترط فيما يعتبر في الإيمان أن يكون تحصيله بالاختيار على ما هو قاعدة المأمور به اهـ، وظاهره عدم الاكتفاء بحصوله دون كسب .
قال ابن الهمام: وفيه نظر، بل إذا حصل كذلك دفعيا كفى ضم ذلك الأمر الآخر من الانقياد الباطن إليه، وذلك التكليف الكائن لتعاطي أسباب العلم، إنما هو لمن لم يحصل له العلم، فإذا حصل هو سقط ما وجوبه لأجله، وبالله التوفيق .
ومنها أن الأظهر أن التصديق قول للنفس، غير المعرفة; لأن المفهوم من التصديق لغة، هو نسبة الصدق إلى القائل، وهو فعل والمعرفة ليست فعلا، إنما هي من قبيل الكيف المقابل [ ص: 250 ] لمقولة الفعل، فلزم خروج كل من الانقياد، الذي هو الاستسلام، ومن المعرفة عن مفهوم التصديق لغة مع ثبوت اعتبارهما شرعا في الإيمان، وثبوت اعتبارهما له، بهذا الوجه على أنهما جزآن لمفهومه شرعا أو شرطان لاعتباره لإجراء أحكامه شرعا .
والثاني: هو الأوجه; إذ في الأول يلزم نقل الإيمان من المعنى اللغوي إلى معنى آخر شرعي، وهو بلا دليل يقتضي وقوعه منتف; لأنه خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا بدليل، ولا دليل، بل قد كثر في الكتاب والسنة طلبه من العرب، وأجاب من أجاب إليه دون استفسار عن معناه، وإن وقع استفسار من بعضهم فإنما هو عن متعلق الإيمان، وعدم تحقق الإيمان بدون المعرفة، والاستسلام لا يستلزم جزئيتهما لمفهومه شرعا; لجواز أن يكونا شرطين للإيمان شرعا، وحقيقته التصديق بالأمور الخاصة بالمعنى اللغوي، وإذا تقرر ذلك ظهر ثبوت التصديق لغة بدونهما مع الكفر الذي هو ضد الإيمان والله أعلم .