الوجه الثالث والثلاثون
أن يقال:
نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه أوجب على الخلق تصديقه فيما أخبر به، وقطعهم بثبوت ما أخبرهم به، وأنه من لم يكن كذلك لم يكن مؤمنا به، بل إذا أقر أنه رسول الله، وأنه صادق فيما أخبر، ولم يقر بما أخبر به من أنباء الغيب - لجواز أن يكون ذلك متيقنا في نفس الأمر بدليل لم يعلمه المستمع، ولا يمكن إثبات ما أثبته الرسول بخبره إلا بعد العلم بذلك - فإن هذا ليس مؤمنا بالرسول.
[ ص: 339 ]
وإذا كان هذا معلوما بالاضطرار، كان قول هؤلاء المعارضين لخبره بآرائهم معلوم الفساد بالضرورة من دينه. وحينئذ فإما أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله فيصدقه في كل ما أخبر به، ويعلم أنه يمتنع أن يكون ذلك منتفيا في نفس الأمر، وأنه لا دليل يدل على انتفائه، وإما أن يكون الرجل غير مصدق للرسول في شيء مما أخبر به، إلا أن يعلم ذلك بدليل منفصل غير خبر الرسول، ومن لم يقر بما أخبر به الرسول إلا بدليل منفصل لم يكن مؤمنا به، بل كان مع الرسول كالفقهاء بعضهم مع بعض: إن قام دليل على قوله وافقه، وإلا لم يوافقه.
ومعلوم أن هذا حال الكفار بالرسل، لا المؤمنين بهم، ورؤوس هؤلاء الذين قال الله فيهم:
وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته [سورة الأنعام: 124] .
وهذا الذي ذكره هذا في العقل ذكره طائفة أخرى في الكشف، كما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14847أبو حامد في كتابه "الإحياء" في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول، وذكر أنه لا يستدل بالسمع على شيء من العلم الخبري، وإنما الإنسان يعرف الحق بنور إلهي يقذف في قلبه، ثم يعرض الوارد في
[ ص: 340 ] السمع عليه، فما وافق [ما] شاهدوه [بنور اليقين] قرروه، وما خالف أولوه".
ومن هنا زادت طائفة أخرى على ذلك، فادعوا أنهم يعلمون -إما بالكشف وإما بالعقل - الحقائق التي أخبر بها الرسول أكمل من علمه بها، بل ادعى بعضهم أن الأنبياء والرسل يستفيدون معرفة تلك الحقائق من مشكاة أحدهم، كما
ادعاه صاحب "الفصوص" أن الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة المسمى عنده بخاتم الأولياء، وادعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الموحى به إلى الرسول.
ومعلوم أن هذه الأقوال من شر أقوال الكافرين بالرسول، لا المؤمنين به.