الوجه الأربعون
أن يقال: كل عاقل يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في الطب أو الحساب أو النحو أو السياسة والأخلاق أو الهيئة أو غير ذلك من الأمور، بكلام عظم قدره وكبر أمره، وذكر أنه بين لهم به وعلم، وهدى به وأفهم، ولم يكن في ذلك الكلام بيان تلك المعلومات، ولا معرفة لتلك المطلوبات، بل كانت دلالة الكلام على نقيض الحق أكمل، وهي على غير العلم أدل- كان هذا: إما مفرطا في الجهل والضلالة أو الكذب والشيطنة والنذالة، فكيف إذا كان قد تكلم في الأمور الإلهية، والحقائق الربانية، التي هي أجل المطالب العالية، وأعظم المقاصد السامية، بكلام فضله على كل كلام، ونسبه إلى خالق الأنام، وجعل من خالفه شبيها بالأنعام، وجعلهم من شر الجهلة الضلال الكفار الطغام، وذلك الكلام لم يدل على الحق في الأمور الإلهية، ولا أفاد علما في مثل هذه القضية، بل دلالته ظاهرة في نقيض الحق والعلم والعرفان، مفهمة لضد التوحيد والتحقيق الذي يرجح إليه ذوو الإيقان، فهل يكون مثل هذا المتكلم الا في غاية الجهل والضلال، أو في غاية الإفك والبهتان والإضلال؟!
[ ص: 371 ]
فهذا حقيقة
قول هؤلاء الملاحدة في رسل الله، الذين هم أفضل الخلق وأعلمهم بالله، وأعظمهم هدى لخلق الله، لا سيما خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم، الذي هو أعلم الخلق بالله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق في بيان هدى الله، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
ومن المعلوم أن من وصف الأمر على خلاف ما هو عليه، فإما أن يكون قد أتي من علمه أو قصده أو عجزه، فإنه قد يكون جاهلا، بالحق، وقد لا يكون جاهلا به، بل ليس مراده تعليم المخاطبين وهداهم وبيان الأمر لهم، كما يقصده أهل الكيد والخداع والنفاق وأمثالهم، وإما أن يكون علمه تاما وقصده البيان، لكنه عجز عن البيان والإفصاح، لقصور عبارته، وعجزه عن كمال البيان والإيضاح.
فإن الفعل يتعذر لعدم العلم، أو لعدم القدرة، أو لعدم الإرادة، فأما إذا كان الفاعل له مريدا له، وهو قادر عليه وعالم بما يريده، لزم حصول مطلوبه.