ومن هنا قال
من قال من النفاة: "إن طريقة الخلف أعلم وأحكم، وطريقة السلف أسلم" لأنه ظن أن طريقة الخلف فيها معرفة النفي، الذي هو عنده الحق، وفيها طلب [التأويل] لمعاني نصوص الإثبات، فكان في هذه عندهم علم بمعقول، وتأويل لمنقول، ليس في الطريقة التي ظنها طريقة السلف، وكان فيه أيضا رد على من يتمسك بمدلول النصوص، وهذا عنده من إحكام تلك الطريق.
ومذهب السلف عنده عدم النظر في فهم النصوص، لتعارض الاحتمالات، وهذا عنده أسلم، لأنه إذا كان اللفظ يحتمل عدة معان، فتفسيره ببعضها دون بعض فيه مخاطرة، وفي الإعراض عن ذلك سلامة من هذه المخاطرة.
فلو كان قد بين وتبين لهذا وأمثاله أن
طريقة السلف إنما هي إثبات [ ص: 379 ] ما دلت عليه النصوص من الصفات، وفهم ما دلت عليه، وتدبره وعقله، وإبطال طريقة النفاة، وبيان مخالفتها لصريح المعقول وصحيح المنقول- علم أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم، وأهدى إلى الطريق الأقوم، وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به، وفهم ذلك ومعرفته، وأن ذلك هو الذي يدل عليه صريح المعقول، ولا يناقض ذلك إلا ما هو باطل وكذب، وأن
طريقة النفاة المنافية لما أخبر به الرسول طريقة باطلة شرعا وعقلا، وأن من جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الآيات، وعدم إثبات ما تضمنته من الصفات، فقد قال غير الحق: إما عمدا وإما خطأ،، كما أن من قال على الرسول: إنه لم يبعث بإثبات الصفات، بل بعث بقول النفاة، كان مفتريا عليه.
وهؤلاء النفاة هم كذابون: إما عمدا وإما خطأ: على الله وعلى رسوله، وعلى سلف الأمة وأئمتها، كما أنهم كذابون: إما عمدا وإما خطأ: على عقول الناس، وعلى ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية، والبراهين اليقينية.
والكذب قرين الشرك، كما قرن بينهما في غير موضع، كقوله تعالى:
فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين [سورة الحج: 30-31] .
وقال تعالى:
إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين [سورة الأعراف: 152] .
[ ص: 380 ]
وقال تعالى:
ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون [سورة القصص: 74-75] .
وتجد هؤلاء حائرين في مثل قوله تعالى:
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب [سورة آل عمران: 7] ، حيث ظنوا أن المراد بالتأويل: صرف النصوص عن مقتضاها.
وطائفة تقول: إن الراسخين في العلم يعلمون هذا التأويل، وهؤلاء يجوزون مثل هذه التأويلات، التي هي تأويلات
الجهمية النفاة.
ومنهم من يوجبها تارة، ويجوزها تارة، وقد يحرمونها على بعض الناس، أو في بعض الأحوال، لعارض، حتى أن الملاحدة من المتفلسفة والمتصوفة وأمثالهم قد يحرمون التأويلات، لا لأجل الإيمان والتصديق بمضمونها، بل لعلمهم بأنه ليس لها قانون مستقيم، وفي إظهارها إفساد الخلق، فيرون الإمساك عن ذلك مصلحة، وإن كان حقا في نفسه.
وهؤلاء قد يقولون: الرسل خاطبوا الخلق بما لا يدل على الحق، لأن مصلحة الخلق لا تتم إلا بذلك، بل لا تتم إلا بأن تخيلوا لهم في أنفسهم ما ليس موجودا في الخارج لنوع من المصلحة، كما يخيل للنائم والصبي والقليل العقل ما لا وجود له، لنوع من المناسبة، لما له في ذلك من المصلحة.
[ ص: 381 ]
وطائفة يقولون: هذا التأويل لا يعلمه إلا الله.