وأما ما ذكره هذا الرجل من الكلام المزخرف الذي قال الله فيه:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون [سورة الأنعام: 112-113].
[ ص: 77 ] وذلك أنه عظم من يعبد الحق لذاته،
وعبادة الحق تعالى لذاته أصل عظيم، وهو أصل الملة الحنيفية، وأساس دعوة الأنبياء، لكن هذا حاصل فيما جاءت به الرسل، لا في طريق الصحابة، فإن
أصحابه لا يعبدون الله، بل ولا يحبونه أصلا، بل ولا يطيعونه، وإنما العبادات عندهم رياضة للنفوس لتصل إلى علمهم الذي يدعون أنه كمال النفس، والكمال عندهم في التشبه به لا في أن يكون محبوبا مرادا.
ولهذا لم يتكلم أحد منهم في "مقامات العارفين" بمثل هذا الكلام الذي تكلم به ابن سينا، وهو أراد أن يجمع بين طريقهم وطريق العارفين أهل التصوف، فأخذ ألفاظا مجملة، إذا فسر مراد كل واحد منها، تبين أن القوم من أبعد الناس عنه محبة الله وعبادته، وأنهم أبعد عن ذلك من اليهود والنصارى بكثير كثير.
ولهذا يظهر فيهم من إهمال العبادات والأوراد والأذكار والدعوات، ما لا يظهر في اليهود والنصارى، ومن سلك منهم مسلك العبادات فإن لم يهده الله إلى حقيقة دين الإسلام، وإلا صار آخر أمره ملحدا من الملاحدة، من جنس ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما.
وأيضا فإنه استحقر ما وعد الناس به في الآخرة من أنواع النعيم، وطلب تزهيد الناس فيما رغبهم الله فيه، وهو مضادة للأنبياء، وهو في الحقيقة منكر لوجود ذلك، كما هو في الحقيقة منكر لوجود محبة الله ومعرفته والنظر إليه، وإنما الذي أثبته من ذلك خيال، كما أن الذي أثبته من لذة المعرفة إنما هو مجرد كونه عالما معقولا موازيا للعالم
[ ص: 78 ] الموجود، وظن أنه بهذا تحصل اللذة التي يسعد بها في الآخرة، وينجو بها من العذاب، وهذا ضلال عظيم.
وقد أعرض
الرازي عن الكلام على هذا فلم يمدحه ولم يذمه، وأما
الطوسي فمدحه عليه، لأنه ملحد من جنسه، والكلام على هؤلاء مبسوط في موضعه.