وحينئذ فنقول
قوله: "إن القضايا الوهمية كاذبة".
إن أراد به القضايا الكلية التي تناقض معقولا، فتلك عندهم ليست من قضايا الوهم. وإن أراد به ما يدركه الوهم من الأمور المعينة في المحسوسات، فتلك صادقة عنده لا كاذبة، وهي لا تعارض الكليات.
وقوله: "إن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة لأنه ليس يقبل ضدها ويقابلها".
فيقال له: هذا يقتضي تمكنها من الفطرة، وثبوتها في النفس، وأن الفطرة لا تقبل نقيضها، وهذا يقتضي صحتها وثبوتها، لا ضعفها وفسادها.
وأما قوله: "لأن الوهم تابع للحس، فما لا يوافق المحسوس لا يقبله الوهم".
فيقال له: إن أردت بالوهم التابع للحس ما سميته وهما، وهو توهم معاني جزئية غير محسوسة في المحسوسات الجزئية، فلا ريب أن
[ ص: 88 ] الوهم تابع للحس، وهذا الوهم قد ذكرت أنه صحيح مطابق كالحس، فإن قدحت في هذا قدحت في الحس، وإن جعلت هذا معارضا للعقل، كان بمنزلة جعل الحس معارضا للعقل.
وإن أردت بالوهم ما يقضي قضاء كليا أن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه محال، ونحو ذلك من القضايا الكلية التي تزعم أنها معارضة للعقل، كان هذا الكلام باطلا من وجهين:
أحدهما: أن هذه قضايا كلية مطلقة، والوهم قد ذكرت أن تصوراته جزئية، فلا يكون هذا من الوهميات.
الثاني: أن يقال: هذه القضايا الكلية كسائر القضايا الكلية التي مبادئها من الحس، كالقضاء بأن السواد والبياض يتضادان، والحركة والسكون يتناقضان، والجسم الواحد لا يكون في مكانين، وأمثال ذلك.
بل هذه بمنزلة الحكم بأن الموجود إما أن يكون قائما بنفسه، وإما أن يكون قائما بغيره، وإما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا، وإما أن يكون واجبا بنفسه، وإما أن يكون ممكنا بنفسه، وأمثال ذلك.
فالقدح في هذه القضايا الكلية كالقدح في تلك، فإن جاز القدح في هذه لأن مبادئها الحس جاز القدح في تلك وإلا فلا، إذ الحس وما يتبعه - مما يسمونه توهما وتخيلا - لا يدرك إلا أمورا معينة جزئية، ثم يقضي الذهن قضاء كليا، فإن جاز أن تكون تلك القضايا الكلية باطلة بسبب كون مبدئها من هذا الوهم، الذي هو في الأصل الصحيح
[ ص: 89 ] عندهم، جاز أن تكون القضايا الكلية باطلة إذا كان مبدئها من الحس عندهم.