[ ص: 107 ] وقوله: "على أن ما يدفعه الوهم ولا يقبله إذا كان في المحسوسات فهو مدفوع منكر".
فيقال له: هذا أيضا حجة عليكم، فإن المنازع يقول: إنه لم يقم دليل شرعي ولا عقلي على إثبات موجود لا يمكن أن يعرف بالحس بوجه من الوجوه، وإن كان لا يمكن أن يعرف كثير من الناس بحسه، ولا يمكن أن يعرف بالحس في كثير من الأحوال.
وقد عرف من مذهب السلف وأهل السنة والجماعة أن الله يمكن أن يرى في الآخرة، وكذلك الملائكة والجن يمكن أن ترى، وما يقوم بالمرئيات من الصفات يمكن أن يعرف بطريقها، كما تعرف المسموعات بالسمع، والملموسات باللمس، ويقول: إن الرسل صلوات الله عليهم قسموا الموجودات إلى غيب وشهادة، وأمروا الإنسان بالإيمان بما أخبروا به من الغيب.
وكون الشيء شاهدا وغائبا أمر يعود إلى كونه الآن مشهودا أو ليس الآن بمشهود، فما لم يكن الآن مشهودا يمكن أن يشهد بعد ذلك، بخلاف هؤلاء النفاة، فإنهم قسموا الموجودات في الخارج إلى محسوس، وإلى معقول لا يمكن الإحساس به بحال.
وهذا مما ينفيه صريح العقل لا مما يثبته، وإنما المعقول الصرف ما كان ثابتا في العقل كالعلوم الكلية، وليس للكليات وجود في الخارج، مع أنه قد يقال: إنه يمكن الإحساس بها أيضا، إذا أمكن الإحساس
[ ص: 108 ] بمحلها، كما يمكن الإحساس بأمثالها من الأعراض، كالعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك.
لكن نحن لا نحس الآن بهذه الأمور بالحس الظاهر، وعدم إحساسنا الآن بذلك، لا يمنع أن الملائكة يمكنها الإحساس بذلك، وأنه يمكننا الإحساس بذلك في حال أخرى، وأنه يمكن كل واحد أن يحس بما في باطن غيره، كما يمكنه الإحساس الآن بوجهه وعينه، وإن كان الإنسان لا يرى وجهه وعينه، فقد يشهد الإنسان من غيره ما لا يشهده من نفسه، وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع.