وأيضا
فالحس نوعان: حس ظاهر يحسه الإنسان بمشاعره الظاهرة فيراه ويسمعه ويباشره بجلده، وحس باطن كما أن الإنسان يحس بما في باطنه من اللذة والألم، والحب والبغض، والفرح والحزن، والقوة والضعف، وغير ذلك.
والروح تحس بأشياء لا يحس بها البدن، كما يحس من يحصل له نوع تجريد، بالنوم وغيره، بأمور لا يحس بها غيره.
ثم الروح بعد الموت تكون أقوى تجردا، فترى بعد الموت وتحس بأمور لا تراها الآن ولا تحس بها.
وفي الأنفس من يحصل له ما يوجب أن يرى بعينه ويسمع بأذنه ما لا يراه الحاضرون ولا يسمعونه، كما يرى الأنبياء الملائكة ويسمعون
[ ص: 109 ] كلامهم، وكما يرى كثير من الناس الجن ويسمعون كلامهم.
وأما ما يقوله بعض الفلاسفة: إن هذه المرئيات والمسموعات إنما هي في نفس الرائي لا في الخارج، فهذا مما قد علم بطلانه بأدلة كثيرة، وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
ومن كان له نوع خبرة بالجن: إما بمباشرته لهم في نفسه وفي الناس، أو بالأخبار المتواترة له عن الناس، علم من ذلك ما يوجب له اليقين التام بوجودهم في الخارج، دع ما تواتر من ذلك عن الأنبياء.
وكذلك ما تواتر عن الأنبياء من وصف الملائكة هو مما يوجب العلم اليقيني بوجودهم في الخارج، كقصة ضيف
إبراهيم المكرمين، ومجيئهم إلى
إبراهيم، وإتيانه لهم بالعجل السمين ليأكلوه، وبشارتهم لسارة بإسحاق ويعقوب، ثم ذهابهم إلى لوط، ومخاطبتهم له، وإهلاك قرى قوم لوط، وقد قص الله هذه القصة في غير موضع.
وكذلك قصة
مريم وإرسال الله إليها
جبريل في صورة بشر حتى نفخ فيها الروح، وكذلك قصة إتيان
جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " تارة في صورة أعرابي،
[ ص: 110 ] وتارات في صورة
nindex.php?page=showalam&ids=202دحية الكلبي".
فمن علم أن الروح قد تحس بما لا يحس به البدن، وأن من الناس من يحس بروحه وبدنه ما لا يحسه غيره من الناس -توسع له طرق الحس، ولم ير الحس مقصورا على ما يحبه جمهور الناس في الدنيا بهذا البدن، فإن هذا الحس إنما يدرك بعض الموجودات.