قلت: هذا الرجل قد ذكر في كتابه أن أصناف الناس أربعة: الحشوية، والأشعرية، والمعتزلة، والباطنية: باطنية الصوفية، وهو يميل إلى باطنية الفلاسفة الذين يوجبون إقرار الجمهور على الظاهر كما يفعل ذلك من يقول بقولهم من أهل الكلام والفقه والحديث، ليس هو من باطنية الشيعة
كالإسماعيلية ونحوهم الذين يظهرون الإلحاد
[ ص: 238 ] ويتظاهرون بخلاف شرائع الإسلام، وهو في نفي الصفات أسوأ حالا من المعتزلة وأمثالهم، بمنزلة إخوانه الفلاسفة الباطنية، حتى أنه يجعل العلم هو العالم، والعلم هو القدرة، وهو مع موافقته لابن سينا على نفي الصفات، يبين فساد طريقته التي احتج بها وخالف بها قدماء الفلاسفة، وهو أن ما شهد به الوجود من الموجود الواجب يمتنع كونه موصوفا لأن ذلك تركيب، ووافق أبا حامد -مع تشنيعه عليه- على أن استدلال ابن سينا على نفي الصفات بأن وجوب الوجود مستلزم لنفي التركيب، المستلزم لنفي الصفات -طريقة فاسدة، واختار طريقة المعتزلة، وهي أن ذلك تركيب، والمركب يفتقر إلى مركب، وهي أيضا من نمط تلك في الفساد.
وكذلك أيضا زيف طريقهم التي استدلوا بها على نفي التجسيم: زيف طريقة
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا وطرق
المعتزلة والأشعرية بكلام طويل، واعتمد هو في نفي التجسيم على إثبات النفس الناطقة، وأنها ليست بجسم، فيلزم أن يكون الله ليس بجسم.
ولا ريب أن هذه الحجة أفسد من غيرها، فإن الاستدلال على نفي كون النفس جسما أضعف بكثير من نفس ذلك في الواجب، والمنازعون له في النفس أكثر من المنازعين له في ذلك، لكن مما يطمعه، ويطمع أمثاله في ذلك ضعف مناظرة
nindex.php?page=showalam&ids=14847أبي حامد لهم في مسألة النفس، فإن
أبا حامد بين فساد أدلتهم التي استدلوا بها على نفي كون الواجب ليس بجسم، وبين أنه لا حجة لهم على ذلك، وإنما الحجة على ذلك طريق
[ ص: 239 ] المعتزلة: طريقة الأعراض والحوادث. وأما في مسألة النفس فهو موافق لهم على قولهم لاعتقاده صحة طريقهم.
nindex.php?page=showalam&ids=13170وابن رشد يذم
أبا حامد من الوجه الذي يمدحه به علماء المسلمين ويعظمونه عليه، ويمدحه من الوجه الذي يذمه به علماء المسلمين، وإن كانوا قد يقولون: إنه رجع عن ذلك، لأن أبا حامد يخالف الفلاسفة تارة، ويوافقهم أخرى، فعلماء المسلمين يذمونه بما وافقهم فيه من الأقوال المخالفة للحق الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم الموافقة لصحيح المنقول وصريح المعقول، كما وقع من الإنكار عليه أشياء في كلام رفيقه
أبي الحسن المرغيناني، وأبي نصر القشيري، nindex.php?page=showalam&ids=14703وأبي بكر الطرشوشي، nindex.php?page=showalam&ids=12815وأبي بكر بن العربي، وأبي [ ص: 240 ] عبد الله المازري، وأبي عبد الله الذكي، ومحمود الخوارزمي، nindex.php?page=showalam&ids=13372وابن عقيل، وأبي البيان الدمشقي، ويوسف الدمشقي، وابن حمدون القرطبي القاضي، nindex.php?page=showalam&ids=11890وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي محمد المقدسي، nindex.php?page=showalam&ids=12795وأبي عمرو بن الصلاح، وغير واحد من علماء المسلمين وشيوخهم.
[ ص: 241 ] والمتفلسفة، الذين يوافقون ما ذكره من أقوالهم، يذمونه لما اعتصم به من دين الإسلام ووافقه من الكتاب والسنة، كما يفعل ذلك ابن رشد الحفيد هذا،
nindex.php?page=showalam&ids=12805وابن الطفيل صاحب "رسالة حي بن يقظان"
وابن سبعين، وابن هود، وأمثالهم.
وهؤلاء وأمثالهم يعظمون ما وافق فيه الفلاسفة، كما يفعل ذلك صاحب "خلع النعلين"
nindex.php?page=showalam&ids=12816وابن عربي صاحب "الفصوص"، وأمثالهم ممن يأخذ المعاني الفلسفية يخرجها في قوالب المكاشفات والمخاطبات الصوفية، ويقتدي في ذلك بما وجده من ذلك في كلام
nindex.php?page=showalam&ids=14847أبي حامد ونحوه.
وأما عوام هؤلاء فيعظمون الألفاظ الهائلة مثل: لفظ الملك، والملكوت، والجبروت، وأمثال ذلك مما يجدونه في كلام هؤلاء، وهم لا يدرون هل أراد المتكلم بذلك ما أراده الله ورسوله، أم أراد بذلك ما أراده الملاحدة
nindex.php?page=showalam&ids=13251كابن سينا وأمثاله.
[ ص: 242 ] والمقصود هنا أن
nindex.php?page=showalam&ids=13170ابن رشد هذا مع اعتقاده أقوال الفلاسفة الباطنية -لا سيما الفلاسفة المشائين أتباع
أرسطو صاحب التعاليم الذين لهم التصانيف المعروفة في الفلسفة- ومع أن قول
nindex.php?page=showalam&ids=13170ابن رشد هذا في الشرائع من جنس قول
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا وأمثاله من الملاحدة، من أنها أمثال مضروبة لتفهيم العامة ما يتخيلونه في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن الحق الصريح الذي يصلح لأهل العلم، فإنما هو أقوال هؤلاء الفلاسفة، وهذه عند التحقيق منتهاها التعطيل المحض، وإثبات وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج غير وجود الممكنات، وهو الذي انتهى إليه أهل الوحدة القائلون بالحلول والاتحاد،
كابن سبعين وأمثاله ممن حقق هذه الفلسفة ومشوا على طريقة هؤلاء المتفلسفة الباطنية من متكلم ومتصوف، وممن أخذ بما يوافق ذلك من كلام
nindex.php?page=showalam&ids=14847أبي حامد وأمثاله، وزعموا أنهم يجمعون بين الشريعة الإلهية والفلسفة اليونانية، كما زعم ذلك أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من هؤلاء الملاحدة.