قال الرازي: "الوجه الرابع: المكان الذي يزعم الخصم حصوله فيه: إن كان موجودا، وهو منقسم، كان جسما، ولزم قدم الأجسام لذواته، وأيضا المكان مستغن في وجوده عن المتمكن لجواز الخلاء وفاقا، والباري تعالى عند الخصم يمتنع كونه لا في حيز، فكان مفتقرا إلى الحيز، وكان المكان بالوجوب والإلهية أولى، وإن كان معدوما استحال حصول الوجود فيه، ولا يلزم علينا كون الجسم في المكان، لأن المعنى منه كونه يمكن الإشارة إلى أحد جوانبه بأنه غير الآخر ومتصل به. وهذا المعنى في الباري يوجب التركيب، وتعالى عنه".
والجواب عن هذا من وجوه.
أحدها: أن يقال: لا نسلم الحصر، بل قد يكون الحيز تارة
[ ص: 313 ] موجودا، وتارة معدوما، فإنه إذا كان في الأزل وحده، لم يكن معه شيء موجود، فضلا عن أن يكون في شيء موجود. ثم لما خلق العالم: فإما أن يكون مداخلا للعالم، وإما أن يكون مباينا له، وإذا امتنع أن يكون هو نفسه دخل في العالم، أو دخل العالم فيه، وجب أن يكون مباينا له، وإذا كان مباينا للعالم، أمكن أن يكون فوق العالم، ويكون ما يسمى حينئذ مكانا أمرا وجوديا، ولا يلزم أن يكون ملازما له، فلا يلزم قدم المخلوقات، ولا افتقاره إلى شيء منها، بل كان مستغنيا عنها، وما زال مستغنيا عنها وإن كان عاليا عليها، فعلوه على العرش وعلى غيره من المخلوقات لا يوجب افتقاره إليه، فإن السماء عالية على الأرض وليست مفتقرة إليها، والهواء عال على الأرض وليس مفتقرا إليها، وكذلك الملائكة عالون على الأرض وليسوا مفتقرين إليها، فإذا كان المخلوق العالي لا يجب أن يكون مفتقرا إلى السافل، فالعلي الأعلى، الخالق لكل شيء والغني عن كل شيء، أولى أن لا يكون مفتقرا إلى المخلوقات مع علوه عليها.
الوجه الثاني: أن قول القائل: "إنه في كل مكان" لفظ فيه إجمال وتلبيس. والمثبتون لعلو الله على خلقه لا يحتاجون أن يطلقوا القول بأنه في مكان، بل منهم كثير لا يطلقون ذلك، بل يمنعون منه، لما فيه من الإجمال.
فإذا قال قائل: إنه لو كان في مكان، لم يخل: إما أن يكون المكان موجودا، أو معدوما.
قيل له: إذا قيل: إن الشيء في مكان، وفسر المكان بأنه معدوم،
[ ص: 314 ] كان حقيقته أنه وحده، ليس معه غيره، إذ لا يقول عاقل: إنه في مكان معدوم، وإنه مع هذا في شيء موجود قد أحاط به، أو كان هو فوقه، أو غير ذلك، إذ هذا كله من صفات الموجودات.
وإذا كان كذلك فقول القائل. وإن كان المكان معدوما استحال حصول الموجود فيه، إنما يلزم لو قدر أن هناك أمرا يكون الواجب فيه، فأما إذا فسر ذلك بأنه وحده، ليس معه غيره، امتنع أن يقال: إنه في غيره.
الثالث: أن يقال: إذا كنت أنت -وعامة العقلاء- تقولون: إن الجسم في مكان، ولا يلزم من هذا أن يكون في شيء موجود، لأنه يستلزم أبعادا لا تتناهى، ولا في معدوم، لأن العدم لا يكون فيه شيء -فقولهم أولى بالقبول والجواز.
وأما قوله: "إن المعنى من كون الجسم في المكان، كونه بحيث يمكن الإشارة إلى أحد جوانبه بأنه غير الآخر ومتصل به".
فيقال له: وبهذا المعنى فسرت قولهم بأنك قلت: المعنى من اختصاص الشيء بالجهة والمكان أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك.
وأما قولهم: هذا المعنى يوجب التركيب في الباري، فهذا هو الحجة الأولى، وقد تقدم جوابها، فإذن هذه الحجة لا تتم إلا بالأولى، فلا تجعل حجة أخرى، وحجة التركيب قد تقدم بيان فسادها.
الرابع: أن يقال لفظ "الحيز" و"المكان" قد يعنى به أمر
[ ص: 315 ] وجودي وأمر عدمي، وقد يعنى بالمكان أمر وجودي، وبالحيز أمر عدمي. ومعلوم أن هؤلاء المثبتين للعلو يقولون: إنه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، وإذا قالوا: إنه بائن من جميع المخلوقات، فكل ما يقدر موجودا من الأمكنة والأحياز فهو من جملة الموجودات، فإذا كان بائنا عنها لم يكن داخلا فيها، فلا يكون داخلا في شيء من الأمكنة والأحياز الوجودية على هذا التقدير، ولا يلزم قدم شيء من ذلك على هذا التقدير.
وإذا قالوا: إنه فوق العرش، لم يقولوا: إن العرش كان موجودا معه في الأزل، بل العرش خلق بعد أن لم يكن، وليس هو داخلا في العرش، ولا هو مفتقر إلى العرش، بل هو الحامل بقوته للعرش ولحملة العرش، فكيف يلزم على هذا أن يكون معه في الأزل؟ بل كيف يلزم على هذا أن يكون داخلا في العرش أو مفتقرا إليه؟ وإنما يلزم ما ذكره من لا بد له من شيء مخلوق يحتوي عليه، وهذا ليس قول من يقول: إنه بائن عن جميع المخلوقات.
الوجه الخامس: أن يقال: قوله "الباري عند الخصم يمتنع كونه لا في حيز" لفظ مجمل، فإن قال: إنه مفتقر عنده إلى حيز وجودي، فهذا لم يقله الخصم، ولا يعرف أحد قاله، وإن قاله من لا يعرف لم يلتفت إليه، ولا ريب عند المسلمين أن الله تعالى غني عن كل ما سواه، فكيف يقال: إنه مفتقر إلى حيز عدمي، فالعدم ليس بشيء حتى يقال: إن الرب مفتقر إليه، أو ليس بمفتقر إليه.
[ ص: 316 ] وإذا فسر الحيز بأمر عدمي، لم يجز أن يقال: إن العدم الذي ليس بشيء أحق بالإلهية من الموجود القائم بنفسه، فعلم أن هذه الحجة مغلطة محضة، وأن لفظ "الحيز" لفظ مجمل.
وهؤلاء يريدون بالحيز تارة ما هو موجود، ويريدون به تارة ما هو معدوم. وكذلك لفظ "المكان"، لكن الغالب عليهم أنهم يريدون بالحيز ما هو معدوم، وبالمكان ما هو موجود، ولهذا يقولون: العالم في حيز وليس في مكان.
وإذا كان كذلك، فمن أثبت متحيزا في حيز عدمي لم يجعل هناك موجودا غيره، سواء كان ذلك واجبا أو ممكنا. وإذا كان كذلك لم يجب أن يكون هناك ما يجب أن يكون موجودا معه، فضلا عن أن يكون هو مفتقرا إليه.
الوجه السادس: أن يقال: هذه الحجة مبنية على أن كل مشار إليه مركب، وأن ذلك ممتنع في الواجب، فإن أردت بالتركيب أن غيره ركبه، أو أنه يقبل التفريق، ونحو ذلك، لم تسلم الأولى.
وإن عنيت بالتركيب إمكان الإشارة إلى بعضه دون بعض، فللناس هنا جوابان:
أحدهما: قول من يقول: هو فوق العالم وليس بمشار إليه، أو هو مشار إليه، وهو لا يتبعض، فيشار إلى بعضه دون بعض، لأن الإشارة إلى البعض دون البعض إنما تعقل فيما له أبعاض، فإذا قدر مشار إليه لا يتبعض، لم يمكن أن يقال هذا فيه.
[ ص: 317 ] والثاني: قول من يقول: يمكن الإشارة إلى بعضه دون بعض، ويقول: التبعيض المنفي عنه، هو مفارقة بعضه لبعض، وأما كونه يرى بعضه دون بعض، فليس هذا منفيا عنه، بل هو من لوازم وجوده. وإذا قال الثاني: هذا تركيب، وهو ممتنع، فقد عرف بطلان هذه الحجة.
الوجه السابع: أن يقال: إذا كان فوق العرش فلا يخلو: إما أن يلزم أن يكون جسما أو لا يلزم، فإن لم يلزم بطل مذهب النفي، فإن مدار قولهم على أن العلو يستلزم أن يكون جسما، فإذا لم يلزم ذلك لم يكن في كونه على العرش محذور، وإن لزم أن يكون جسما، فإن لازم هذا القول قدم ما يكون جسما، وحينئذ فقول القائل: إن كان المكان موجودا كان جسما ولزم قدم الأجسام لدوامه -لا يكون محذورا على هذا التقدير، ولا يصح الاستدلال على انتفاء المكان بهذا الاعتبار.
وأما الوجه الثامن: فقوله: "المكان مستغن في وجوده عن المتمكن، لجواز الخلاء وفاقا، والباري عند الخصم يمتنع كونه لا في الحيز، فكان مفتقرا إلى الحيز" يعترض عليه الخصم بأنا لا نسلم أنه على هذا التقدير يكون كل مكان مستغنيا عن المتمكن، فإنه لا يقول عاقل إن شيئا من الممكنات مستغنية عن الواجب الوجود، فإذا جعل ما سمى مكانا من الممكنات المبدعات لله تعالى، لم يجز أن يقال: هو مستغن عنه.
وأيضا يقال: إن عنيت بكون المكان مستغنيا عن المتمكن، أنه لا يفتقر إلى كون المتمكن عليه، فهذا مسلم، لكنه لا يفيدك، إلا إذا
[ ص: 318 ] قيل: إن المتمكن مفتقر إلى وجود المكان المستغنى عنه، وهذا لم يذكره في التقسيم.
وإن عنيت أنه يستلزم استغناءه عن فاعل مبدع، فهذا ليس بلازم على هذا التقدير، فإن الأمكنة كلها مفتقرة إلى فاعل مبدع، وإن استغنت عن متمكن. وإذا كان وجوده مستلزما للحيز على هذا التقدير، لم يكن مفتقرا إلى ما هو مستغن عنه، بل كان وجوده مستلزما لأمور لازمة له مفتقرة إليه، وذلك لا يوجب أن يكون غيره مستغنيا عنه، ولا أن يكون مفتقرا إلى ما هو مستغن عنه، كما أن الذات إذا كانت مستلزمة للصفات، لم يجب أن تكون الصفات أحق بالإلهية.
هذا عند من يقول بالصفات، وكذلك من يقول بالأحوال من المسلمين. ومن نفى الجميع كالفلاسفة الدهرية، فعندهم أن وجود الواجب مستلزم لوجود الممكنات، مع أنها هي المفتقرة إليه، وهو مستغن عنها.
ونكتة الاعتراض أنه فرض افتقاره إلى مكان مستغن عنه، فلا ريب أن هذا باطل بالاتفاق، لأنه يلزم أن يكون الخالق فقيرا إلى ما هو مستغن عنه، وهذا ينافي وجوب وجوده. وأما إذا كان ما سمي مكانا مفتقرا إليه، وهو المبدع الخالق له، لم يكن فيما ذكره ما يبطل ذلك.
[ ص: 319 ] أما إذا قدر أن وجوده لا يستلزم وجود ذلك ولا يشترط فيه ذلك، لكن حصل بحكم الجواز لا بحكم الوجوب، فهذا ظاهر.
وأما إذا قدر أن ذلك لازم له، فغايته أن وجوده مستلزم لما يكون الرب ملزوما له، وهو مفتقر إلى الرب تعالى، وقد عرف كلام الناس في مثل هذا.