قال الرازي: "واحتج الخصم بالعلم الضروري بأن كل موجودين فإن أحدهما سار في الآخر أو مباين عنه في الجهة".
[ ص: 341 ] قال: "والجواب أن دعوى الضرورة قد سبق بطلانها وبقي القسم الثالث فهذه المقدمة توجب الدور لتوقف ثبوتها على نفيها".
والاعتراض على هذا: أن دعوى الضرورة لا يمكن إبطالها إلا بتكذيب المدعي أو بيان خطئه، والمدعون لذلك أمم كثيرة منتشرة يعلم أنهم لم يتواطأوا على الكذب، فالقدح في ذلك كالقدح في سائر الأخبار المتواترة، فلا يجوز أن يقال: إنهم كذبوا فيما أخبروا به عن أنفسهم من العلم الضروري.
وأيضا فالمنازع يسلم أن مثل هذا مستقر في فطر جميع الناس وبدائههم، وأنهم مضطرون إليه لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم، إلا كما يمكن دفع أمثاله مما هم مضطرون إليه، وإنما يقولون: إن هذه الضرورة خطأ وهي من حكم الوهم.
وقد تقدم بيان فساد ذلك، وأن هذه قضية كلية عقلية، لا خبرية معينة، ولو كانت خبرية معينة فالجزم بها كالجزم بسائر الحسيات الباطنة والظاهرة، فهي لا تخرج عن العقليات الكلية والحسيات المعينة، وكما يمتنع اتفاق الطوائف الكثيرة التي لم تتواطأ على دعوى الكذب في مثل
[ ص: 342 ] ذلك، يمتنع اتفاقهم على الخطأ في مثل ذلك، ولو جاز الخطأ في مثل ذلك، لم يكن الجزم بما يخبر به الناس عما عرفوه بالحس أو الضرورة لإمكان غلطهم في ذلك، فإن غلط الحس الظاهر أو الباطن أو العقل يقع لآحاد الناس، ولطائفة حصل بينها مواطأة، وتلقي بعضها عن بعض، كالمذاهب الموروثة، وكقول التابعين، لكون هذا معلوما بالضرورة، فإنهم أهل مذهب تلقاه بعضهم عن بعض.
وأما الجازمون بالضرورة في أن الله فوق العالم، أو أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، ولا يعقل موجودان ليس أحدهما محايثا للآخر ولا مباينا له، وأن مثل هذا ممتنع بالضرورة التي يجدونها في أنفسهم، كسائر علومهم الضرورية، فهؤلاء أمم كثيرة لم يتواطأوا ولم يتفقوا على مذهب معين.
وأما قوله: "وبقي القسم الثالث، فهذه المقدمة توجب الدور لتوقف ثبوتها على نفيها".
فليس الأمر كذلك، لأن هذه المقدمة الضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يعارضها، كسائر المعارف الضرورية، بل نعلم بالضرورة أن ما عارضها من النظريات فهو باطل على سبيل الجملة، وإن لم نذكر حل الشبه على وجه التفصيل، كما نعلم فساد سائر النظريات السوفسطائية المعارضة للعلوم الضرورية.
وإذا قال قائل: لا تثبت هذه المقدمة حتى ينفي المعارض المبطل لها، ونفي ذلك لا يكون إلا بثبوتها.
[ ص: 343 ] كان قوله ممنوعا غير مقبول باتفاق العقلاء على نظائر ذلك، فإن كل مقدمة ضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يقدح فيها، والاستدلال بها لا يتوقف على ذلك، بل هم يقولون: إن القضايا اليقينية سواء كانت ضرورية أو نظرية، لا يتوقف العلم بموجبها على نفي المعارض، ولو توقف على ذلك لم يعلم أحد شيئا، لأن ما يخطر بالقلوب من الشبهات المعارضة لا نهاية له، فكيف يحتاج في العلوم الضرورية إلى نفي المعارض؟
ولهذا كان جميع العقلاء السالمي الفطرة يحكمون بموجب هذه القضية الضرورية قبل أن يعلموا أن في الوجود من ينكرها ويخالفها، وأكثر الفطر السليمة إذا ذكر لهم قول النفاة بادروا إلى تجهيلهم وتكفيرهم، ومنهم من لا يصدق أن عاقلا يقول ذلك، لظهور هذه القضية عندهم، واستقرارها في أنفسهم، فينسبون من خالفها إلى الجنون، حتى يروا ذلك في كتبهم أو يسمعوه من أحدهم.
ولهذا تجد المنكر لهذه القضية يقر بها عند الضرورة، ولا يلتفت إلى ما اعتقده من المعارض لها. فالنفاة لعلو الله إذا حزب أحدهم شدة وجه قلبه إلى العلو يدعو الله.
ولقد كان عندي من هؤلاء النافين لهذا من هو من مشايخهم، وهو يطلب مني حاجة، وأنا أخاطبه في هذا المذهب كأني غير منكر له، وأخرت قضاء حاجته حتى ضاق صدره، فرفع طرفه ورأسه إلى السماء، وقال: يا الله، فقلت له: أنت محقق، لمن ترفع طرفك
[ ص: 344 ] ورأسك؟! وهل فوق عندك أحد؟ فقال: أستغفر الله، ورجع عن ذلك لما تبين له أن اعتقاده يخالف فطرته، ثم بينت له فساد هذا القول: فتاب من ذلك، ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم.