الوجه الرابع: أن يقال: لا نسلم أنه بتقدير ما يذكر من التعارض لا يمكن تصديقهما، بل يمكن ذلك، فإن ما ينفيه صريح العقل من صفات النقص وإثبات المماثلة بين الخالق وصفاته، والمخلوق وصفاته، لم يثبته السمع الصحيح، وما أثبته السمع الصحيح الصريح لم ينفه عقل صريح.
وحينئذ
فلا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح، وإنما يظن تعارضهما من غلط في مدلولهما أو مدلول أحدهما، كمن يعارض الدلالات العقلية الصريحة من السوفسطائية وأمثالهم، وكمن يظن تعارض الأدلة السمعية من الملاحدة.
[ ص: 40 ]
وكثيرا ما يشتبه ذلك وتتعارض الدلالتان عند من يكن السفسطة والإلحاد لشبه قامت به، فتكون الآفة من إدراكه لا من المدرك، كالأحول الذي يرى الواحد اثنين، والممرور الذي يجد الحلو مرا، وإلا فالسمع الصحيح هو القول الصادق من المعصوم، الذي لا يجوز أن يكون في خبره كذب لا عمدا ولا خطأ. والمعقول الصحيح هو ما كان ثابتا أو منتفيا في نفس الأمر، لا بحسب إدراك شخص معين، وما كان ثابتا أو منتفيا في نفس الأمر. لا يجوز أن يخبر عنه الصادق بنقيض ذلك، بل من شهد الكائنات على ما هي عليه وجدها مطابقة لخبر الصادق.
كما قال تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد [سورة فصلت: 53] . فأخبر أنه سيريهم من الآيات العيانية المشهودة لهم، ما يبين لهم أن القرآن حق.
وقال تعالى:
ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد [سورة سبإ: 6] . فمن أوتي العلم رأى أن ما أنزل إليه من ربه هو الحق، وأما من كان عنده ما يظنه علما - وهو جهل - فذاك يرى الأمر على خلاف ما هو عليه، مثل من زاغ فأزاغ الله قلبه، وكان في قلبه مرض، فزاده الله مرضا، وممن يقلب الله أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ومن الصم البكم
[ ص: 41 ] العمي الذين لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهدى، أو لم يكونوا يعقلون بحال.
وأمثال هؤلاء قال تعالى فيهم:
والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم [سورة الأنعام: 39] .
وقد ضرب الله مثل هؤلاء وهؤلاء في غير موضع من القرآن كسورة النور وغيرها.