وأما
قياس الخالق بالمخلوق، وقول القائل: لو كان متصفا بالصفات والأفعال القائمة به، لكان مماثلا للمخلوق المتصف بالصفات والأفعال القائمة به - ففي غاية الفساد، فإن تشابه الشيئين من بعض الوجوه لا يقتضي تماثلهما في جميع الأشياء، فإذا كان المسيح المشابه لآلهتهم في وجوه كثيرة لا تكاد تحصى - مثل كون هذا كان معدوما وهذا كان معدوما، وهذا محدث ممكن، وهذا محدث ممكن، وهذا مفتقر إلى
[ ص: 60 ] غيره وهذا مفتقر إلى غيره، وهذا يقدر عليه غيره، وهذا يقدر عليه غيره، وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض، وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض، وهذا يمكن إفساده واستحالته، وهذا يمكن إفساده واستحالته، وأمثال ذلك من الأمور التي يجب تنزيه الرب عنها - فمع اشتراكهما في هذه الأمور التي يجب تنزه الرب عنها، لم يصح قياس أحدهما بالآخر، ولا أن يثبت له من الحكم ما ثبت له، وإن كانا قد اشتركا في هذه الأمور.
فالخالق سبحانه الذي يفارق غيره بأعظم مما فارق به المسيح آلهتهم، هو أولى وأحق بأن لا يمثل بخلقه، لأجل موافقته في بعض الأسماء والصفات، إذ أصل هذا القياس الفاسد أن الشيئين إذا اشتركا وتشابها في بعض الأشياء، لزم اشتراكهما وتماثلهما في غير ذلك مما ليس من لوازم المشترك، وهذا كله خطأ فاحش، وبعضه أفحش من بعض، فالشيئان إذا اشتركا في شيء لزم أن يشتركا في لوازمه، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، فأما ما ليس من لوازمه، فلا يجب اشتراكهما فيه.
فكون المعبود من حصب جهنم، ليس من لوازم كونه معبودا، بل من لوازم كونه معبودا يصلح دخوله النار، والمسيح ونحوه لا يصلح دخولهم النار.
وكذلك ثبوت الوجود والحياة والعلم والقدرة والاستواء والنزول، ونحو ذلك من الأمور التي يوصف بها الخالق والمخلوق، ليس من لوازمها
[ ص: 61 ] الإمكان والحدوث والآفات والنقائص، فإن الإمكان من لوازم ما ليس واجبا بنفسه، والحدوث من لوازم المعدوم، وإمكان الآفات والنقائص من لوازم ما يقبل ذلك.
وهذه الصفات صفات كمال لا تستلزم الآفات، بل قد تكون منافية للآفات والنقائص، والمنافي للشيء لا يكون من لوازمه، بل هو مناقض للوازمه، فكيف يجعل المنافي كالملازم؟
والمقصود أن المشركين كانوا يعارضون الرسول بما يتخيلونه مناقضا لقوله، وإن لم يكن في ظاهر قوله ما يناقض: لا معقولا ولا منقولا، فكيف إذا كان ظاهر قوله يناقض صريح المعقول الذي عليه أئمة أرباب العقول، لا سيما إذا كان ذلك المعقول هو الذي لا يمكن تصديقه إلا به؟ فإذا كان قد أظهر ما يطعن في دليل صدقه وشاهده، كان معارضته بذلك أولى الأشياء.
وكذلك أيضا لما أخبرهم بالإسراء وشجرة الزقوم أنكر ذلك طائفة منهم، وزعموا أن العقل ينافي ذلك.
وأنزل الله تعالى:
وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن [سورة الإسراء: 60] .
وفي الصحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به .
[ ص: 62 ]
قال تعالى:
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [سورة الإسراء: 1] .
وقال:
أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى [سورة النجم: 12-16] .
وقال تعالى:
وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم [سورة التكوير: 22-25] .
فإذا كان ما أخبرهم به من رؤية الآيات التي أراها الله إياها ليلة الإسراء قد أنكروها وكذبوه لأجلها، واستبعدوا ذلك بعقولهم، مع أن ذلك ليس ممتنعا في العقل، فكيف بما هو ممتنع في صريح العقل.
وكذلك أيضا أنكروا أن يبعث الله بشرا رسولا، وجعلوا ذلك منكرا ممتنعا في عقولهم.
كما قال تعالى:
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [سورة الإسراء: 24] .
وقال:
أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [سورة يونس: 2] .
[ ص: 63 ]
وقال تعالى:
وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا [سورة الفرقان: 41] .
وقال تعالى:
وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [سورة الأنعام: 9] .
وقال تعالى:
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء [سورة الأنعام: 91] .
وقد حكي نحو ذلك عمن تقدم من الكفار، كقول قوم فرعون:
أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين [سورة المؤمنون: 47-48] .
وقول قوم
نوح: ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا [سورة هود: 27] .
وقالت أصناف الأمم لرسلهم:
إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا [سورة إبراهيم: 10] .
حتى قالت الرسل:
إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [سورة إبراهيم: 11] .
وأمثال هذا.
فقد ذكر عن المشركين أنهم أنكروا إرسال رسول من البشر، ودفعوا ذلك بعقولهم.
[ ص: 64 ]
وهذا
قول من يجحد النبوات من
البراهمة مشركي
الهند وغيرهم، ولهم شبه معروفة يزعمون أنها براهين عقلية تقدح في جواز إرسال الرسل.
ولهذا قال تعالى:
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [سورة يوسف: 109] .
وقال:
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [سورة النحل: 43] .
وقال:
قل ما كنت بدعا من الرسل [سورة الأحقاف: 9] .
وأمثال ذلك.
وكذلك لما أخبرهم بالمعاد عارضوه بعقولهم، وقد ذكر الله تعالى من حججهم التي احتجوا بها في
إنكار المعاد ما هو مذكور في القرآن.
كقوله تعالى:
وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [سورة يس: 78-81] .
وقد ذكر طعنهم في الرسالة والمعاد جميعا في قوله تعالى:
[ ص: 65 ] ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ [سورة ق: 1-4] .
ثم ذكر الأدلة عليهم إلى قوله:
أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [سورة ق: 15] .
وهذه السورة قد تضمنت من أصول الإيمان ما أوجبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المجامع العظام، فيقرأ بها في خطبة الجمعة وفي صلاة العيد، وكان من كثرة قراءته لها يقرأ بها في صلاة الصبح، وكل ذلك ثابت في الصحيح.
قال تعالى:
وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا [سورة الإسراء: 49-52] .
وقد ذكر نحو ذلك عمن مضى من المكذبين للرسل، كقولهم عن رسولهم:
[ ص: 66 ] أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين [سورة المؤمنون: 35-38] .
وقال تعالى:
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون [سورة الجاثية: 24] .
وأمثال هذا في القرآن كثير.
وذكر عنهم أنه طعنوا في الرسول بعقولهم بأمور ظنوها لازمة له، كقولهم:
وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [سورة الفرقان: 7-8] .
قال تعالى:
انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا [سورة الفرقان: 9] .
وكذلك قالوا عمن قبله من الرسل كما قال فرعون:
أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين [سورة الزخرف: 52-53] .
وقالوا لشعيب:
وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز [سورة هود: 91] .
والمقصود هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعارضه من
[ ص: 67 ] المؤمنين به والكفار من لا يكاد يحصى معارضة لا ترد عليه.
ولم تكن إلا من جهل المعارض، ولم يكن في ظاهر الكلام الذي يقوله لهم ومفهومه ومعناه ما يخالفه صريح المعقول، بل كان المعارضون يعارضون بعقولهم ما لا يستحق المعارضة، فلو كان فيما بلغهم إياه عن الله، من أسمائه وصفاته ونحو ذلك، ما يخالف ظاهره صريح المعقول، لكان هذا أحق بالمعارضة، وكان يمتنع في مستمر العادة أن مثل هذا لا يعارضه أحد: لا معارضة دافع طاعن، ولا معارضة مستشكل مسترشد، فكيف إذا كان ذلك يعارض القضايا العقلية التي بها علموا نبوته، وأنه رسول الله إليهم؟ فكانت تكون المعارضة بذلك أولى أن تقع من الكفار والمسلمين.
أما الكفار فيقولون له: نحن لا نعلم صدقك إلا بأن نعلم بعقولنا أمورا تناقض ما يفهم ويظهر مما تخبرنا به، فالمصدق لك يكون متناقضا متلاعبا، لا يمكنه أن يقبل بعض أخبارك إلا برد بعضها، وهذا ليس فعل العالمين الصادقين دائما، بل فعل من يكذب تارة ويصدق أخرى، أو يصيب تارة ويخطئ أخرى.
وأما المسلمون المظهرون للإسلام فقد كان فيهم منافقون، وفي المؤمنين سماعون لهم يتعلقون بأدنى شبهة يوقعون بها الشك والريب في قلوب المؤمنين، وكان فيهم من له معرفة وذكاء وفضيلة وقراءة للكتب ومدارسة لأهل الكتاب، مثل
أبي عامر الفاسق، الذي كان يقال له
أبو عامر الراهب، الذي اتخذ له المنافقون
مسجد الضرار. [ ص: 68 ]
وأيضا فقد كان اليهود والنصارى يعارضونه بما لا يصلح للمعارضة، ويقدحون في القرآن بأدنى شبهة، ويخاطبون بذلك من أسلم، كما قالوا
nindex.php?page=showalam&ids=19للمغيرة بن شعبة: أنتم تقرأون في كتابكم:
يا أخت هارون [سورة مريم: 28] ،
وموسى بن عمران كان قبل
عيسى بسنين كثيرة، فظنوا أن
هارون المذكور هو
هارون أخو
موسى، وهذا من فرط جهلهم، فإن عاقلا لا يخفى عليه أن
موسى كان قبل
عيسى بسنين كثيرة، وأن
مريم أم عيسى ليست أخت
موسى وهارون، ولا هو
المسيح ابن أخت
موسى، وليس في من له تمييز - وإن كان من أكذب الناس - من يرى أن يتكلم بمثل هذا الذي يضحك عليه به كل من سمعه، فكيف بمن هو أعظم الناس عقلا وعلما ومعرفة، غلبت عقول بني آدم ومعارفهم وعلومهم، حتى استجاب له كل ذي عقل مصدقا لخبره، مطيعا لأمره وذل له - أو خاف منه - كل من لم يستجب له، وظهر به من العلم والبيان، والهدى والإيمان، ما قد ملأ الآفاق، وأشرق به الوجود غاية الإشراق.
فكان النصارى الذين سمعوا هذا - لو كان لهم تمييز - لعلموا أن مثل هذا الرجل العظيم الذي جاء بالقرآن لا يخفى عليه أن المسيح ليس هو ابن أخت
موسى بن عمران، ولا يتكلم بمثل ذلك، ولو كانت أختهما لكان إضافتها إلى
موسى أولى من إضافتها إلى
هارون، فكان يقال لها: يا أخت
موسى، لكن لما اتفق أن
مريم هذه بنت
عمران، وذانك
[ ص: 69 ] موسى وهارون ابنا
عمران، فكان لفظ
عمران فيه اشتراك، والاشتراك غالب على أسماء الأعلام - نشأت الشبهة، حتى
nindex.php?page=hadith&LINKID=3503950سأل المغيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ألا قلت لهم إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم؟ إن هارون هذا كان رجلا في بني إسرائيل سموه باسم هارون النبي .
فمن كانوا يعارضونه بمثل هذه المعارضة، كيف يسكتون عن معارضته إذا كان الخطاب الذي أخبر به، والمفهوم الظاهر منه - بل الصريح منه الذي لا يحتمل التأويل مخالفا لصريح العقل، بل مخالفا لما به يعلم صدقه وصدق الأنبياء قبله؟ وهلا كان أهل الكتاب يقولون له: ما جئت به يقدح في نبوات الأنبياء قبلك، فإنا لا يمكننا أن نصدقك إلا بقضايا عقلية بها يعلم صدق الرسل، وما أظهرته للناس وبينته لهم وأخبرتهم به يناقض الأصول العقلية التي بها نعلم تصديق الأنبياء؟