الوجه الرابع: أن يقال:
القرآن: إما أن يقال: إنه بنفسه دال على العلو وإثبات ما يفهم منه من الصفات. وإما أن يقال: إنه ينفي ذلك، وإما أن يقال: إنه لا يدل على ذلك لا بنفي ولا إثبات.
فإن قيل بالأول ثبت المقصود وعلم أن مدلول القرآن ومفهومه هو
[ ص: 111 ] الإثبات، وتبين ما ذكر من أنه يمتنع أن يكون العقل الصريح معارضا لذلك.
وإن قيل بالثاني كان هذا معلوم الفساد بالاضطرار، فإنه ليس في القرآن آية واحدة ظاهرة في نفي الصفات، وغاية ما يريد من يستدل بذلك أن يستدل بقوله:
ليس كمثله شيء [سورة الشورى: 11] ، وقوله:
ولم يكن له كفوا أحد [سورة الإخلاص: 4] ، ونحو ذلك، وهذه الآيات إنما تنفي مماثلة صفاته لصفات المخلوقين، لا تنفي ثبوت الصفات. ولا ريب أن
القرآن تضمن إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات، فأما أن يكون فيه ما ينفي الصفات، فهذا من أعظم البهتان، الذي يظهر أنه كذب لكل عاقل.
ولهذا لما كان النفاة يعتمدون على ما ينفي التمثيل كقوله تعالى:
ليس كمثله شيء ، وقوله:
ولم يكن له كفوا أحد ، وهذا لا يدل على مقصودهم في اللغة التي نزل بها القرآن، بل هو على نقيض مقصودهم أدل، فإن هذا يدل على ثبوت شيء موصوف بصفات الكمال، لا مماثل له في ذلك، وهم لم يثبتوا ذلك - احتاجوا إلى أن يفتروا على اللغة، بعد أن افتروا على العقل، فصاروا مفترين على الشرع والعقل واللغة، فيقول أحدهم: لو كان موصوفا بالعلو لكان جسما، ولو كان جسما لكان مماثلا لسائر الأجسام، والله قد نفى عنه المثل، فهذا أعظم ما يعتمدون عليه من جهة السمع.
وقد بين في غير هذا الموضع فساد هذا من وجوه كثيرة. منها أن يقال: هنا ثلاث مقدمات حصل فيها التلبيس: أحدها: كون كل
[ ص: 112 ] عال جسما. والثاني: كون الأجسام متماثلة. والثالث: كون هذا التماثل هو المراد بالمثل في لغة العرب التي نزل بها القرآن.