ومما يبين هذا أن السلف لم يذموا التكلم بأسماء مفردة: كالجوهر، والجسم، والعرض، فإن الاسم المفرد ليس بكلام، ولا يتكلم به أحد، وإنما ذموا الكلام المؤلف الدال على معان، والذين كانوا يتكلمون بهذه الأسماء كان كلامهم متضمنا لأمور فيها افتراء على الله ورسوله: إما إثبات ما نفاه الله، وإما نفي ما أثبته الله، ومتضمنة لمعان باطلة هي كذب وباطل في نفس الأمر.
والمقصود هنا التنبيه على جنس ما مدحه السلف وذموه، وأنهم كانوا أعرف الناس بالحق وأدلته، وبطلان ما يعارضه، وإنما يظن بهم التقصير في هذا من كان جاهلا بحقيقة الحق، وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من العلم والإيمان، وبما وصل إليه السلف والأئمة، فجهله بالأول يوجب أن لا يعلم الحق بل يعتقد نقيضه، وجهله بالثاني يوجب ظنه أن ليس فيما جاء به الرسول بيان الحق بأدلته والمناظرة عنه، وجهله بالثالث يوجب ظنه أن
السلف ذموا الكلام بالأدلة الصحيحة المفضية
[ ص: 177 ] إلى العلم بالله وصفاته خوفا من الشبهات والأهواء، بل الأصل في ذم السلف للكلام هو اشتماله على القضايا الكاذبة، والمقدمات الفاسدة، المتضمنة للافتراء على الله تعالى وكتابه ورسوله ودينه.
فهذا هو الكلام المذموم بالذات، وهو الكلام الكاذب الباطل، وأما الكلام الذي هو حق وصدق، فهذا لا يذم بالذات، وإنما يذم المتكلم به أحيانا، لاشتمال ذلك على مضرة عارضة، مثل ما يحرم القذف، وإن كان القاذف صادقا إذا لم يكن له أربعة شهداء، ومثل ما تحرم الغيبة والنميمة ونحو ذلك مما هو صدق لكن فيه ظلم للغير.