وممن ذكر ذلك
أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا في كتابه في الكلام، أو بعض نظرائه من أصحاب
الأستاذ أبي المعالي، قال: (فإن قيل:
إذا قلتم: إن النظر واجب والمعرفة واجبة، فما قولكم في العوام وسائر الناس الذين لا ينظرون ولا يعرفون؟ أهم مؤمنون أم كافرون؟ قلنا: اختلف في هذا علماء الأصول. أما
أبو هاشم رأس
القدرية فإنه ركب الأبلق العقوق في هذا، وقال: من لا يعرف الله فهو كافر غير مؤمن، وقال: المعرفة واجبة فإذا لم تحصل فضدها النكرة، والنكرة كفر، وقرره بأن هؤلاء العامة يقولون: إنهم
[ ص: 358 ] مخيرون في المذاهب أم غير مخيرين؟ فإن قلتم: إنهم مخيرون بين الرفض والاعتزال والقدر، والتجسيم والتشبيه، وغير ذلك من المذاهب فهذا خطأ وعناد. وإن قلتم: لا يخيرون بل يتبعون بعض المذاهب، فلا يمكن اختيار بعض المذاهب إلا بدليل، وذلك هو العلم والنظر) .
قال: (وأما علماؤنا فكلهم مجمعون على أن العامة مؤمنون، وأنهم حشو الجنة، إلا أنهم اختلفوا في ذلك، فقال قائلون: إنهم عالمون بالله تعالى، عارفون بالأدلة، إلا أن عبارتهم غير مفصحة بالألفاظ المصطلح عليها، وإلا فالأدلة في طي عقولهم ونشر نفوسهم، وإذا رأى أحدهم خضرة تفوه يقول: سبحان الله وما هذا نظر منه. وقالوا: لا معنى للعلم إلا اعتقاد المعلوم على ما هو عليه، وهذا موجود في حق العامة. ثم إنهم قالوا في العلوم النظرية: ما قولكم فيها؟ أتجيزون وجودها ضرورة أم لا تجيزون وإن لم تجوزوا ذلك فقد أبعدتم، وإن جوزتم ذلك فألا قلتم مثله ههنا؟ ويكون التكليف الوارد في حقهم
[ ص: 359 ] قول: لا إله إلا الله
محمد رسول الله، وتكون المعارف ضرورية) .
قال: (وقال قائلون من علمائنا: هم مؤمنون غير عالمين لأن العلم حقيقة، فإن وجدت حكمنا بأنهم عالمون، وإلا فلا. والعلم معرفة المعلوم على ما هو به، على وجه لا يمكن الانحلال عنه ولا الانفكاك منه، وإذا طرأت عليه شبهة [لا] يرتاع لها ولا يتشكك. وهذا العلم بناؤه على طريق يفيد العلم، ولا يوجد هذا في حق العامة فإنهم وإن اعتقدوا المعلوم على ما هو به، إلا أنهم يعرضه التشكك إذا ذكرت لهم شبهة، إذ لا يقدرون على دفعها بطريق يستند العلم إليه، لأنهم يدفعون الشبه باتباع الآباء والتعصب الذي نشأوا عليه، وهذا لا يحصل به العلم، وإذا قال: إن العلم حصل بغير اتباع الآباء والتقليد، فهذا عالم حقيقة، كسادات
الصوفية، فإن المعارف في حقهم ضرورة) .
قال: (وأما قوله بأن العامة ينظرون. قلنا: لعمري ذاك كله مبادئ النظر، وما وصلوا إلى غاية النظر، وهو وقوف منهم على أحد شطري الشيء، لأنهم يقولون: العالم حادث، ويجوز أن يكون
[ ص: 360 ] حادثا، ويجوز أن يكون قديما مثلا، فيعتقد حدوثه ولا ينظر إلى الجانب الآخر. والعالم يستعرض المسالك، ويشرحها بالمدارك، وينهي النظر إلى الغاية القصوى) .
قال: (فإن قيل: كيف يكونون مؤمنين وليسوا بعارفين؟ قلنا: لأن الله تعالى أوجب عليهم هذا القدر، ولم يوجب عليهم العلم. وهذا معلوم بضرورة العقل، مستندا إلى السمع، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتفي من الأعراب بالتصديق، مع علمنا بقصور علمهم عن معرفة النظر والأدلة، بل يجب عليهم نفي الشك عنهم، فإذا كانوا قد نفوا الشك واللبس عنهم، وعقائدهم مستقرة، فهم مؤمنون. ولا نقول: يجب العلم، بل لو زال الشك عنهم بخبر التواتر ظاهرا، أو قول بعض المشايخ، أو منام هائل في حق الخصوم، ثم سكنت قلوبهم إلى اعتقادهم، صح ذلك. فإن لم يزل عنهم الشك إلا بالعلم، فعند ذلك لا بد منه) .
قال: (وفي القرآن حجاج، وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج، غير أن العامي يكتفي به، كقوله تعالى:
أفعيينا بالخلق الأول [سورة ق: 15]، وليس من أنكر الحشر ينكره لأجل العياء. وكذلك قوله تعالى:
ويجعلون لله ما يكرهون [سورة النحل: 62]،
ألكم الذكر وله الأنثى [سورة النجم: 21]، وليس هذا يدل على نفي الولد قطعا، فمبادئ النظر كافية لهم. فإن قيل: فإذا لم يجب هذا النظر على كافة الناس، فهل يجب على الآحاد؟ قلنا: أجل، يجب في كل عصر أن يقول به آحاد الناس، وهو فرض من فروض الكفايات، كالجهاد وتعلم القرآن
[ ص: 361 ] وغير ذلك من فروض الكفايات. فأما عامة الناس فلا يتعين عليهم العلم، بل الاعتقاد الصحيح يكفيهم) .