وأيضا فمن الناس من يقول: العلوم الضرورية والبديهية يشترك فيها عامة العقلاء، ويجعل ما يختص به بعضهم ليس من هذا القسم. ومنهم من يسمي كل ما اضطر إليه الإنسان وبدهه ضروريا وبديهيا، وإن كان ذلك مختصا بنوع من الناس، كما يختص بالأنبياء والأولياء وأهل الفراسة والإلهام.
وعلى هذا
فالعلم الحاصل بتيسير الله تعالى وهدايته وإلهامه، وجعله له في قلب العبد بدون استدلال، يسميه هؤلاء علما ضروريا. وإن كان
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم وأمثاله لا يسمونه ضروريا، فهذا نزاع لفظي.
ومن حد الضروري بأنه العلم الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه، جعل هذا كله ضروريا. وكذلك يقول كثير من شيوخ أهل المعرفة لكثير من أهل النظر: إن علمنا ضروري، كما في الحكاية المعروفة التي ذكرها
أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي [ ص: 431 ] ورأيتها بخطه عن
الشيخ أحمد الحيوقي المعروف بالكبرى، قال: دخل علي
فخر الدين الرازي ورجل آخر من
المعتزلة كبير فيهم، فقالا: يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين. فقلت نعم أنا أعلم علم اليقين. فقالا [لي]: كيف تعلم علم اليقين، ونحن نتناظر من وقت كذا إلى وقت كذا، وكلما أقام حجة أبطلتها، وكلما أقمت حجة أبطلها؟ فقلت: ما أدري ما تقولان، ولكن أنا أعلم علم اليقين. فقالا: فبين لنا ما هذا اليقين. فقلت: واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها. فجعلا يرددان هذا الكلام، ويقولون: واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها.
وتعجبا من هذا الجواب، لأنه رحمه الله بين أن ذلك من العلوم الضرورية التي تلزم القلب لزوما لا يمكنه مع ذلك دفعها. ثم قالا له: كيف الطريق إلى هذه الواردات؟ فقال لهما: بأن تسلكا طريقتنا التي نأمركم بها فاعتذر
الرازي بما له من الموانع. وأما المعتزلي فقال: أنا محتاج إلى هذه الواردات، فإن الشبهات قد أحرقت قلبي. فأمره الشيخ بما يفعله من العبادة والذكر وما يتبع ذلك، ففتح الله عليه بهذه الواردات.