[ ص: 31 ] قال: (فإن قيل: بماذا تعلمون أن في العقول حجة ودليلا؟ قيل: بأن تبين في كل مسألة تبيينا عقليا يفضي النظر فيه إلى العلم. فإن قيل لم قلتم إن معرفة الله لا تنال إلا بالنظر في حجة العقل؟ قيل: الدلالة على ذلك: أن
الكتاب إنما يصح أن يستدل به إذا علم أنه كلام الله الحكيم. فيجب تقدم العلم بالله وحكمته وبأن هذا كلامه، وإنما لم يصح الاستدلال عليه بالسنة، لأنه إنما يصح الاستدلال بها إذا ثبت أنها كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحكيم، فيجب تقدم العلم بالله وحكمته، وأن هذا الرسول رسوله. وإنما لم يصح الاستدلال بالإجماع على الله، لأنه إنما يصح الاستدلال بالإجماع بعد أن يعلم أن الله ورسوله قد شهدا بأنه حجة، فيجب تقدم العلم بالله، فصح أن العلم بالله لا يستفاد بغير حجة العقل) .
قال: (فإن قيل فما الدليل الذي يؤدي النظر فيه إلى معرفة الله تعالى؟ قيل: نفسك وسائر ما تشاهده من الأجسام. فوجه دلالة
[ ص: 32 ]
الإنسان من نفسه على الله تعالى أنه قد كان نطفة، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن انتهى إلى حال الكمال، فلا بد لهذا التنقل والتغير من مغير. ولم يكن التغير في وقت أولى من وقت. فلا يخلو ذلك المغير إما أن يكون قد اقتضى تغيرها على سبيل الإيجاب من غير اختيار بالطبع أو القالب، أو يكون اقتضى تغيرها على سبيل الاختبار وهو الفاعل. ولا يخلو ذلك الفاعل إما أن يكون هو الإنسان أو غيره. وإن كان غيره فلا يخلو إما أن يكون من جنسه أو من غير جنسه. فإن كان من جنسه فإما أن يكون أبويه أو غيرهما. فإن كان من غير جنسه فهو قولنا. وسنبطل سائر الأقسام، ونثبت هذا الأخير. أما أنه لا يجوز أن يكون الإنسان قد تشكل لأجل أن الرحم على شكل القالب، فلأن الكلام فيمن شكل ذلك القالب، كالكلام فيمن شكل الإنسان، ولأن القالب يقتضي تشكيل ظاهر ما يلقى فيه. فما الذي اقتضى تشكيل باطن الإنسان ووضع أجزاء الباطن مواضعها؟ ولا يجوز أن يكون المقتضي لتغيير الإنسان وتشكيله طبيعية غير عالمة ولا مختارة، لأن الإنسان أبلغ في الترتيب والحكمة من بناء دار وصناعة تاج. وكما لم يجز أن يحصل ذلك ممن ليس بعالم فكذلك الإنسان. ألا ترى أن أعضاء الإنسان مقسومة على حسب المنفعة وموضوعة مواضعها؟ ولا يجوز أن يكون الإنسان هو
[ ص: 33 ] الذي غير نفسه من حال إلى حال، لأنه لو قدر على ذلك في حال ضعفه لكان في حال كماله أقدر. وإذا عجز عن خلق مثله وخلق أعضائه في حال كماله فهو عن ذلك في حال الضعف أعجز، ولا يجوز أن يكون المغير له من حال إلى حال أبويه، لأنه ليس يجري على حسب إيثارهما، ألا ترى أنهما يريدانه فلا يكون ويكرهانه فيكون؟ ويريدانه ذكرا فيكون أنثى، ويريدانه أنثى فيكون ذكرا؟ فإذا لم يكن لأبويه في ذلك تأثير فغيرهما مما لا تعلق له به أجدر. فصح أن للإنسان فاعلا مخالفا له، وهو الله تعالى) .