وعلى هذا فقد يقال:
الأدلة الشرعية نوعان: عقلي وسمعي. فالعقلي ما دل الشرع عليه من المعقولات، والسمعي ما دل بمجرد الإخبار. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن أئمة النظار معترفون باشتمال القرآن على الدلائل العقلية. وأما على اصطلاح أولئك، فكثيرا ما يعنون بالدليل الشرعي الدليل السمعي الخبري، وهو مجرد خبر الشارع الصادق، فعلى اصطلاحهم ينازعهم الناس في تلك المقدمات العقلية، التي زعموا أن المعرفة لا تحصل إلا بها.
فأما المقدمة الأولى، وهي قولهم: إن المعرفة لا تحصل مبتدأة في النفس، بل لا بد لها من طريق، فهي من موارد النزاع. فإذا قيل لهم: إنها قد تحصل في النفس مبتدأة، لم يكن لهم على نفي ذلك دليل إلا مجرد الاستقراء، الذي هو: إما فاسد، وإما ناقص.
وقولهم: إن نفوس العقلاء تتشوف إلى الاستدلال. يقول لهم المنازعون: لا نسلم أن جميع العقلاء كذلك، بل
جمهور العقلاء [ ص: 38 ] مطمئنون إلى الإقرار بالله تعالى، وهم مفطورون على ذلك. ولهذا إذا ذكر لأحدهم اسمه تعالى، وجد نفسه ذاكرة له مقبلة عليه، كما إذا ذكر له ما هو عنده من المخلوقات.
والمتجاهل الذي يقول: إنه لا يعرفه، هو عند الناس أعظم تجاهلا ممن يقول: إنه لا يعرف ما تواتر خبره من الأنبياء والملوك، والمدائن والوقائع، وذلك عندهم أعظم سفسطة من غيره من أنواع السفسطة.
ولهذا من تتبع مقالات الناس المخالفة للحس والعقل، وجد المسفسطين فيها أعظم بكثير من المسفسطين المنكرين للصانع. فعلم أن معرفته في الفطرة أثبت وأقوى، إذ كان وجود العبد ملزوم وجوده، وحاجته معلقة به سبحانه وتعالى، بل كل ما يخطر بقلب العبد ويريده فهو ملزوم له، وخواطر العباد وإرادتهم لا نهاية لها. وانتقال الذهن من الملزوم إلى اللازم لا ينحصر، بل إقرار القلوب به قد لا يحتاج إلى وسط وطريق، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات.