وهذه السياقة المتقدمة هي سياقة
أبي الحسن في اللمع فإنه قال في أوله:
(إن سأل سائل: ما الدليل على أن للخلق صانعا صنعه، ومدبرا دبره؟ قيل: الدليل على ذلك أن الإنسان، الذي [ ص: 71 ] هو في غاية الكمال والتمام، كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحما ودما، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال إلى حال، لأنا نراه في حال كمال قوته، وتمام عقله، ولا يقدر أن يحدث لنفسه سمعا ولا بصرا، ولا أن يخلق لنفسه جارحة، فدل ذلك على أنه قبل تكامله، واجتماع قوته وعقله، كان عن ذلك أعجز، لأن ما عجز عنه في حال الكمال، فهو في حال النقصان عنه أعجز، ورأيناه طفلا، ثم شابا، ثم كهلا، ثم شيخا، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم، لأن الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم، ويردها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك، فدل ما وصفناه على أنه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الأحوال، وأن له ناقلا نقله من حال إلى حال، ودبره على ما هو عليه، لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر) .
قال: (ومما يبين ذلك أيضا: أن القطن لا يجوز أن يتحول
[ ص: 72 ] غزلا مفتولا، ولا ثوبا منسوجا بغير صانع ولا ناسج، ومن اتخذ قطنا فانتظر أن يصير غزلا مفتولا، ثم ثوبا منسوجا، بغير صانع ولا ناسج، كان عن المعقول خارجا، وفي الجهل والجا، وكذلك من قصد إلى برية لم يجد فيها قصرا مبنيا، فانتظر أن يتحول الطين إلى حال الآجر، وينتضد بعضه إلى بعض بغير صانع ولا بان كان جاهلا، فإذا كان تحول النطفة علقة، ثم مضغة، ثم لحما، ثم عظما ودما، أعظم في الأعجوبة، كان أولى أن يدل على صانع صنعها، أعني النطفة، ونقلها من حال إلى حال) .
قال: (وقد قال تعالى:
أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [سورة الواقعة:58-59]، فما استطاعوا بحجة أن
[ ص: 73 ] يقولوا إنهم يخلقون ما يمنون مع تمنيهم الولد فلا يكون، ومع كراهتهم له فيكون. وقال تنبيها لخلقه على وحدانيته:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون [سورة الذاريات:21 ] فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم، ومدبر دبرهم) .