وذكر كلاما آخر إلى أن قال: (فإن قال قائل: فما
الدليل الآن [ ص: 76 ] على أنه لا بد لسائر الأفعال الحاضرة والغائبة من فاعل فعلها، ومدبر دبرها؟ وكيف وجه تعلق الإنسان وغيره من المصنوعات، بفاعل ومدبر صنعه وقصده، متى لم يكن هو الفاعل لنفسه؟ قيل له: قد تقدم من كلام صاحب الكتاب ما هو دلالة على ذلك، وقد مضى شرحنا له، حيث قلنا: إن تعلق الفعل بالفاعل، كتعلق الفاعل في كونه فاعلا بفعله.
ثم نقول في الدليل على ذلك: إنه لا يسوغ أن يجيب عن هذه المسألة إلا من سلم لنا هذه الأمور - التي هي التأليفات والتصويرات والتركيبات - معان محدثات، وإن كان لا يقر بأنها أفعال، كلم في أصل هذه المسألة، وقرر معه القول بوجوب حدوثها، فإذا كان الأمر على ما وصفناه، لم يكن لأحد أن يسأل عن هذه المسألة.
وقد يخالف في أن هذه الأمور التي ذكرناها أفعال، لأنه إذا قال: ما الدليل على أن هذه الأفعال تتعلق بفاعل؟ فقد أثبتها أفعالا، فإذا أنكر أن تكون أفعالا، فقد أبطل بآخر كلامه ما أثبته بأوله، ولكن قد يسوغ أن يقول: ما الدليل على أن التأليف يتعلق بمؤلف؟ وإن لم يسلم أنه فعل، لشبهة تدخل عليه.
[ ص: 77 ]
فإذا كان الأمر على ما وصفنا، رجعنا فقلنا: الدليل على أنه لا بد للأفعال من تعلق بفاعل، أنا وجدناها يتقدم بعضها على بعض في الوجود، ويتأخر بعضها عن بعض، وتوجد في زمان كان يصح عدمها فيه، بدلا من الوجود، وتعدم في زمان يصح وجودها فيه بدلا من العدم.
فإذا كان هذا وصفها، قلنا: لا يخلو ما تقدم منها: أن يكون متقدما لنفسه، أو لمعنى يوجد به، أو لا لنفسه ولا لعلة، أو لمقدم قدمه، وكذلك حكم القول فيما تأخر منها، فنظرنا فإذا هو مستحيل أن يكون أن ما تقدم منها إنما تقدم لنفسه، لأنه قد يتقدم على ما هو جنسه، ويتأخر عنه ما ذاته مثل ذاته، كالجواهر وأجزاء السواد وغير ذلك من المتماثلات، فلو كان ما تقدم منها متقدما لنفسه، لم يكن بالتقدم أولى مما هو مثل له، ولا كان المتأخر منها بالتأخر أولى منه بالتقدم، إذ قد صح وثبت أن المتماثلين هما ما سد أحدهما مسد صاحبه، وناب منابه، واقتضت ذاته من الأحكام ما اقتضته ذات ما كان مثلا له.
وفي العلم بتقدم بعض المتماثلات على بعض، وتأخر بعضها عن بعض - فإن ما تقدم منها، فالتقدم أولى منه بالتأخر، وما تأخر منها، فالتأخر أولى منه بالتقدم - دليل على أنه لا يجوز أن يكون
[ ص: 78 ] المتقدم منها متقدما لنفسه، ولا المتأخر منها متأخرا لنفسه، ويستحيل أن يكون ما تقدم منها متقدما لعلة توجد به، لأنه ليس بأن توجد له تلك العلة - إذا لم تكن تلك العلة منه معلقة بموجد - أولى من وجودها بغيره. ووجود سائر ما جانسها، بسائر ما يحتمله ذلك الجنس من العلل المقتضية بالتقدم، الذي هو الوجود في الوقت المخصوص الذي يتكلم عليه، حتى تتساوى في الوجود، ولا يتأخر بعضها عن بعض، لاحتمالها ما يقتضي وجودها من المعاني وكونها متماثلة. على أنه لو كان المتقدم من الجواهر وأجزاء السواء متقدما لعلة، والمتأخر عنها متأخرا لعلة، لكانت علة التقدم قبل علة التأخر، إذ كانت موجودة مع المتقدم، الذي هو قبل المتأخر.
ولو كان ذلك كذلك، لوجب أن يكون لعلة أيضا، ما تقدمت إحدى العلتين على الأخرى، لأن علة التقدم والتأخر يجب أن تكونا من جنس واحد، لأنهما حدوثان ووجودان للحادث الموجود، ولو ثبتا معنى من المعاني. وقد أبنا فيما سلف أنه لا يجوز تقدم أحد المثلين على صاحبه لنفسه وجنسه. ووجود الشيئين في زمانين متغايرين، لا يخرج
[ ص: 79 ] الوجود عن حقيقته، فيجب لذلك أن تكون علة وجود الشيء في زمان، كعلة وجود غيره في غير ذلك الزمان، ومن جنسها.
وإذا كان كذلك، وجب أن يكون تقدم إحدى العلتين للأخرى لعلة ثانية، والقول في الثانية وفي وجوب تعليقها بثالثة - إذا كانت متقدمة لعلة - كالقول في الأولى. وكذلك القول في علة التأخر، وهذا يوجب ما لا نهاية له من الحوادث، وذلك محال. فإن اعترف المخالف أن الشيء الذي يتقدم وجوده وجود ما هو مثل له لعلة فعلها فاعل، أقر أن الفعل يتعلق بالفاعل، وكان حكم المعلول حكم العلة، ففي ذلك ما أردناه.
وإن امتنع من تعلق العلة المقتضية لوجود ما يوجد به الفاعل، دخل عليه ما كلمناه به آنفا: من أنه ليس احتمال بعض الجواهر لما يقتضي وجوده في زمان بعد زمان، بأولى من احتمال وجود ذلك فيما هو مثل له) .