ففي الجملة: الطرق التي تختص بطائفة طائفة، مع طولها وثقلها على جمهور الخلق، لا تكون في مثل
الكتاب العزيز، الذي جعله الله شفاء ورحمة، ودعا به الخلق جميعهم ليخرجهم به من الظلمات إلى النور، فإن مثل هذا الكتاب العزيز لا يليق أن يذكر فيه من الطرق ما يثقل على جمهور الخلق ويستركونه ويعدونه لكنة وعيا لا يحتاج إليه، ويرونه من باب إيضاح الواضحات، كما لو ذكر فيه الرد على
السوفسطائية ببيان أن الشمس موجودة، والقمر موجود، والبحار موجودة، والجبال موجودة، والكواكب موجودة، وأن الإنسان يعلم هذا بالمشاهدة - ونحو ذلك - لكن هذا مما يستقبح ذكره، ويستثقله ويستركه جمهور العقلاء، لأن هذا عندهم أمر معلوم، مستقر في عقولهم، لا يحتاجون فيه إلى خطاب عالم من العلماء، فضلا عن كتاب منزل من السماء.
[ ص: 90 ]
وإذا قدر أن بعض الناس احتاج إلى إزالة ما عرض له من هذه الشبه
السوفسطائية، كان هذا من الأمراض النادرة التي لا تعرض لجمهور العقلاء، وعلاج هذا لا يحتاج إلى كتاب منزل من السماء يقصد به هدى الخلق، وبيان ما يحتاجون إليه في صلاح أمورهم.
ولو ذكر في القرآن مثل هذا، لم يكن لما يذكر من ذلك غاية، لأن الخواطر الفاسدة لا نهاية لها ولا ضابط، فكان يضيع زمان الناس في القراءة والسماع لما لا ينتفع به جماهيرهم، ويشتغلون بذلك عما لا بد لهم منه، ولا يصلح أمرهم إلا به.
ونحن لم يكن بنا حاجة - في الإيمان بالله ورسوله - إلى مثل هذه الطرق، وإنما ذكرناها لما كان الذين سلكوها يعارضون كلام الله ورسوله بمقتضاها، ويزعمون أنه قد قامت عندهم أدلة عقلية تناقض ما جاءت به الرسل، فكشفنا حقائق هذه الطرق التي يعارضون بها، لنبين أن ما عارض النصوص منها لا يكون إلا باطلا، وما لم يعارض النصوص: فقد يكون حقا، وقد يكون باطلا، وما كان حقا ولم يعارض النصوص، فقد لا يحتاج إليه، بل في الطرق العقلية التي دلت النصوص عليها وهدت إليها ما يغني عن ذلك، بل تلك الطرق
[ ص: 91 ] أقوى وأقرب وأنفع، فإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.
وقد قال تعالى:
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [سورة الشورى:53]، والصراط المستقيم هو أقرب الطرق إلى المطلوب، بخلاف الطرق المنحرفة الزائفة، فإنها إما أن لا توصل، وإما أن توصل بعد تعب عظيم، وتضييع مصالح أخر، فالطرق المبتدعة إن عارضت كانت باطلا، وإن لم تعارض، فقد تكون باطلا، وقد تكون حقا لا يحتاج إليه مع سلامة الفطرة.
ولهذا كل من كان إلى طريق الرسالة والسلف أقرب، كان إلى موافقة صريح المعقول وصحيح المنقول أقرب.
فالقاضي أبو بكر، وإن كان أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول في أصول الدين - بخلاف أصول الفقه - من
أبي المعالي، وأتباعه،
nindex.php?page=showalam&ids=13711والأشعري أقرب إلى ذلك من
nindex.php?page=showalam&ids=12815القاضي أبي بكر، nindex.php?page=showalam&ids=13464وأبو محمد بن كلاب أقرب إلى ذلك من
أبي الحسن، والسلف والأئمة أقرب إلى ذلك من
nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب، فكل من كان إلى الرسول أقرب كان أولى بصريح المعقول وصحيح المنقول، لأن كلام المعصوم هو الحق الذي لا باطل فيه، وهو المبلغ عن الله كلامه، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.