كذلك الأمر في حركات الأجرام السماوية التي أدرك القدماء. من هذه الحركات - وهي نيف على الأربعين - ترجع كلها إلى سبعة آمرين، وترجع السبعة - أو الثمانية، على اختلاف بين القدماء في عدد الحركات - إلى الآمر الأول.
وهذه المعرفة تحصل للإنسان بهذا الوجه، سواء علم كيف مبدأ خلقه هذه الأجسام - أعني السماوية - أو لم يعلم، وكيف ارتباط وجود سائر
[ ص: 214 ] الآمرين بالآمر الأول أو لم يعلم، فإنه لا شك أنها لو كانت موجودة من ذاتها، أعني قديمة من غير علة ولا موجد، لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر واحد لها بالتسخير وألا تطيعه، وكذلك حال الآمرين مع الآمر الأول.
وإذا لم يجز ذلك عليها، فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة، وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها، لا في عرض من أعراضها، كحال السيد مع عبيده، بل في نفس وجودها، فإنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات، بل تلك الذوات تقومت بالعبودية.
وهذا هو معنى قوله تعالى:
إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [سورة مريم:93]، وهذا الملك هو ملكوت السماوات والأرض الذي أطلع الله
إبراهيم عليه في قوله تعالى:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين [ ص: 215 ] وأنت تعلم أنه إذا كان الآمر هكذا، فإنه يجب ألا تكون خلقة هذه الأجسام ومبدأ كونها على نحو كون الأجسام التي ها هنا، وأن العقل الإنساني يقصر عن إدراك كيفية ذلك الفعل، وإن كان يعترف بالوجود، فمن رام أن يشبه الوجودين: أحدهما بالفاعل، وأن الفاعل لها فاعل بالنحو الذي توجد الفاعلات ها هنا، فهو شديد الغفلة، عظيم الزلة كثير الوهلة) .
قال: (فهذا هو أقصى ما تفهم به مذاهب القدماء في الأجرام السماوية. وفي إثبات الخلق لها، وفي أنه ليس بجسم، وإثبات ما دونه من الموجودات التي ليست بأجسام، واحدها هي النفس) .
قال: (وأما إثبات وجوده من كونها محدثة، على نحو حدوث الأجسام التي نشاهدها كما رام المتكلمون، فعسير جدا والمقدمات المستعملة في ذلك غير مفضية بهم إلى ما قصدوا بيانه) .
[ ص: 216 ]
قلت: فهذا الكلام لا ريب أنه إلى الكلام الذي نقله الناس عن أرسطو وأصحابه في إثبات واجب الوجود أقرب من كلام
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا وأمثاله.
بل هذا خير من الكلام المنقول عن
أرسطو من وجوه متعددة، فإن المنقول عن
أرسطو إنما فيه أنه جعل الأول محركا لها، من حيث هو محبوب معشوق لها للتشبه به، يحركها تحريك المحبوب لمحبه، بل تحريك المتشبه به للمتشبه، كتحريك الإمام للمؤتم، فإن هذا أضعف من تحريك المحبوب لمحبه، كتحريك الطعام للآكل، والمرأة للجماع. وأما هذا فقد جعله آمرا لها بالحركة، مسخرا لها بذلك، مكلفا لها بذلك.
لكن
أرسطو أثبت قوله بأن الحركة الإرادية الشوقية لا بد فيها من عقل يتشبه به الفلك، كما يتشبه المؤتم بالإمام.