قال: (ومنهم من وافق على أن واجب الوجود واحد، ثم افترقوا فقال فريق منهم: إنه لم يزل ولا وجود لشيء عنه، ثم ابتدأ وأراد وجود شيء عنه، ولولا هذا لكانت أحوال متجددة من أصناف شتى في الماضي لا نهاية لها موجودة بالفعل، لأن كل واحد منها وجد، فالكل وجد، فيكون لما لا نهاية له من أمور متعاقبة كلية منحصرة في الوجود. قالوا: وذلك محال، وإن لم تكن كلية حاصرة لأجزائها معا فإنها في حكم ذلك، وكيف يمكن أن تكون حال من هذه الأحوال
[ ص: 254 ] توصف بأنها لا تكون إلا بعد ما لا نهاية له، فتكون موقوفة على ما لا نهاية له، فيقطع إليها ما لا نهاية له. ثم كل وقت يتجدد يزداد عدد تلك الأحوال، وكيف يزداد عدد ما لا نهاية له؟ ومن هؤلاء من قال: إن العالم يوجد حين كان أصلح لوجوده، ومنهم من قال: لم يمكن وجوده إلا حين وجد، ومنهم من قال: لا يتعلق وجوده بحين وشيء آخر بل بالفاعل، ولا يسأل عن لم فهؤلاء هؤلاء) .
قال: (وبإزاء هؤلاء قوم من القائلين بوحدانية الأول، يقولون:
إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود في جميع صفاته وأحواله الأزلية، وأنه ليس يتميز في العدم الصريح حال الأولى به فيها أن لا يوجد شيئا، أو بالأشياء أن لا توجد عنه أصلا، وحال بخلافها، ولا يجوز أن تسنح له إرادة متجددة إلا لداع، وأن
[ ص: 255 ] تسنح جزافا. وكذلك لا يجوز أن تسنح طبيعة أو غير ذلك بلا تجدد حال، وكيف تسنح إرادة لحال تجددت، وحال حال ما يتجدد كحال ما يمهد له التجدد فيتجدد؟ وإذا لم يكن تجدد، كانت حاله ما لم يتجدد شيء حالا واحدة مستمرة على نهج واحد، وسواء جعلت التجدد لأمر تيسر، أو لأمر زال مثلا لحسن من الفعل وقتا ما، أو تيسر، أو وقت معين، أو غير ذلك مما عد، أو لقبح كان بكون له قد زال، أو عائق، أو غير ذلك كان فزال.
قالوا: فإن كان الداعي إلى تعطيل واجب الوجود عن إفاضة الخير والجود هو كون المعلول مسبوق العدم لا محالة. فهذا الداعي
[ ص: 256 ] ضعيف قد انكشف لذوي الأبصار ضعفه على أنه قائم في كل حال، وليس في حال بأولى بإيجاب السبق من حال، وأما كون المعلول ممكن الوجود في نفسه واجب الوجود بغيره، فليس يناقض كونه دائم الوجود بغيره كما نبهت عليه.