فالأمر المتجدد المتحول الحادث، سواء سميته صفة أو حالا أو حادثا أو فعلا، وسواء كان قائما به أو بغيره، بموجب دليلك أنه لا يجوز بغير الأمور القديمة الأزلية. فإن كان هذا حقا وجب ألا يحدث شيء من الحوادث، فإن جوز أن تحدث عن قديم من غير حدوث أمر وجودي يكون شرطا في وجودها، فقد جوز تغير الأمور الأزلية بلا سبب. وإن قال: لا بد من تجدد أمر به يحصل حدوثها، وإذا تجدد أمر فقد حصل تغير لم يكن في الأزل، فانتقضت حجته.
وإيضاح هذا أن يذكر نظير حجته. فيقال له: القديم الذي لم يزل غير فاعل لا يجوز كونه فاعلا، فإنه إذا كان غير فاعل، فإما أن يكون ذلك لنفسه أو لعلة، إلى آخر الكلام.
[ ص: 329 ]
وإن قال: فعله بعد أن لم يكن فاعلا، ليس إلا مجرد وجود المفعولات، والفعل حدوث نسبة وإضافة بينهما، وهي عدمية.
فيقال له: فالمتجدد القائم به يقال فيه كذلك، ليس هو إلا مجرد وجود ذلك المتجدد، وهو حدوث نسبة وإضافة عدمية، والفعل حدوث نسبة وإضافة بينهما وهي عدمية.
فإن قال: هذا يلزم منه قيام المتجددات والحوادث به، وهذا لا يجوز.
قيل له: هذه مصادرة على المطلوب، فإنك أنت لم تقم دليلا على أن القديم لا تقوم المتجددات والحوادث به، بل ما ذكرته هو الدليل على ذلك. فإن كان استدلالك على هذا لا يتم إلا بأن تجعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه، لم يكن لك عليه دليل إلا مجرد الدعوى، وصار هذا بمنزلة أن يقول القائل: القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة، لأن القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة.
وإذا كان العلم بالصانع موقوفا على هذا الدليل، لم يكن هناك علم بالصانع، بل صار حقيقة الكلام: الدليل على ثبوت الصانع حدوث النطفة وغيرها من الأجسام، والدليل على حدوث ذلك أنه تقوم به المتجددات والحوادث، وما قامت به المتجددات والحوادث كان حادثا، لأن ما قامت به المتجددات والحوادث كان حادثا.
فيكون منتهى الكلام: مجرد الدعوى التي نوزع فيها والاستدلال عليها
[ ص: 330 ] بنفسها، مع ترك الدليل الواضح البين، الذي يشهد به الحس ويعلمه الخلق، ولا ينازع فيه عاقل - وهو حدوث المحدثات التي يشهد حدوثها، ثم افتقار المحدثات إلى فاعل ليس بمحدث بل قديم - من الأمور المعلومة بالضرورة لعامة العقلاء، لا ينازع فيه إلا من هو من شر الناس سفسطة.
فهذا وأمثاله مما يقوله جمهور الأنام، في مثل هذا المقام، ويقولون: إنا نعلم بالاضطرار: أن ما ذكره الله تعالى في القرآن ليس فيه إثبات الصانع بهذه الطريق، بل ما في القرآن من الإخبار عن الله بما أخبر عنه من أفعاله وأحواله يناقض هذه الطريق. ويقولون: إن العقل الصريح مطابق لما في القرآن، فإن حدوث المحدثات مشاهد معلوم بالحس والعقل، وكون المحدث لا بد له من محدث أمر يعلم بصريح العقل، وأيضا فحدوث الحادث بدون سبب حادث ممتنع في العقل.