ومما يبين هذا
أن كل حركة إرادية، فإن الموجب لها قوة في المريد، فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين، كان فيه قوة تقتضي ذلك، إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل، ولا يشترط في إرادته إلا مجرد الشعور بالمراد، فما في النفوس من
[ ص: 450 ] قوة المحبة له - إذا شعرت به - يقتضي حبه إذا لم يحصل معارض.
وهذا موجود في محبة الأطعمة والأشربة والنكاح، ومحبة العلم، وغير ذلك. وإذا كان كذلك، وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والذل له، وإخلاص الدين له، وأن فيها قوة الشعور به - لزم قطعا وجود المحبة فيها، والذل بالفعل لوجود المقتضي الموجب إذا سلم عن المعارض، وعلم أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل يكلمها بكلام، وإن كان وجود هذا قد يذكر ويحرك، كما لو خوطب الجائع بوصف طعام، أو خوطب المغتلم بوصف النساء، فإن هذا مما يذكر ويحرك، لكن لا يجب ذلك في وجود الشهوة للطعام ووجود الأكل.
فكذلك الأسباب الخارجة لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق والذل له ومحبته، وإن كان ذلك مذكرا ومحركا، أو مزيلا للمعارض المانع، لكن المقصود أنه لا يحتاج حصول ذلك في الفطرة إليه مطلقا.
وأيضا
فالإقرار بالصانع بدون عبادته، بالمحبة له والذل له وإخلاص الدين له، لا يكون نافعا، بل الإقرار مع البعض أعظم استحقاقا للعذاب، فلا بد أن يكون في الفطرة مقتض للعلم، ومقتض للمحبة، والمحبة مشروطة بالعلم، فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه، والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من خارج، بل هو جبلي فطري، وإذا كانت
[ ص: 451 ] المحبة جبلية فطرية، فشرطها - وهو المعرفة أيضا - جبلي فطري، فلا بد أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به.
وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها، وهو فطرة الله التي أمر الله بها.