وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه، فهذا هو الإله الذي يألهه القلب. فإذا لا بد لكل عبد من إله، فعلم أن العبد مفطور على أنه يحب إلهه.
ومن الممتنع أن يكون مفطورا على أنه يأله غير الله لوجوده:
منها: أن هذا خلاف الواقع.
ومنها: أنه ليس هذا المخلوق، بأن يكون إلها لكل الخلق، بأولى من هذا.
ومنها: أن المشركين لم يتفقوا على إله واحد، بل عبد كل قوم ما يستحسنوه.
ومنها: أن ذلك المخلوق إن كان ميتا فالحي أكمل من الميت، فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة ميت، وإن كان حيا فهو أيضا مريد، فله إله يألهه، فلو كان هذا يأله هذا، وهذا يأله هذا، لزم الدور الممتنع، أو التسلسل الممتنع، فلا بد لهم كلهم من إله يألهونه.
[ ص: 466 ]
فإن قلت: ما ذكرته يستلزم أنه لا بد لكل حي من إله، أو لكل إنسان من إله، لكن لم لا يجوز أن يكون مطلوب النفس مطلق المألوه، لا مألوها معينا، وجنس المراد لا مرادا معينا؟.
قيل: هذا ممتنع، فإن المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه، فالأول مثل كون العطشان يريد ماء، والسغبان يريد طعاما، فإرادته هنا لم تتعلق بشيء معين، فإذا حصل عين من النوع حصل مقصوده.
والمراد لذاته لا يكون نوعا، لأن أحد المعنيين ليس هو الآخر، فلو كان هذا مرادا لذاته، للزم أن لا يكون الآخر مرادا لذاته، وإذا كان المراد لذاته هو القدر المشترك بينهما، لزم أن يكون ما يختص به أحدهما ليس مرادا لذاته، وإذا لم يكن مرادا لذاته، لزم أن يكون ما يختص به كل منهما ليس مرادا لذاته.
والكلي لا وجود له في الأعيان إلا معينا، فإذا لم يكن في المعينات ما هو مراد لذاته، لم يكن في الموجودات الخارجية ما هو مراد لذاته، فلا يكون فيها ما يجب أن يألهه أحد، فضلا عما يجب أن يألهه كل واحد.
فتبين
أنه لا بد من إله معين، هو المحبوب لذاته من كل حي، ومن الممتنع أن يكون هذا غير الله، فلزم أن يكون هو الله، وعلم أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وأن كل مولود ولد على محبة هذا الإله، ومحبته
[ ص: 467 ] مستلزمة لمعرفته، فعلم أن كل مولود ولد على محبته ومعرفته، وهو المطلوب.
وهذا الدليل يصلح أن يكون مستقلا، وهذا بخلاف ما يراد جنسه كالطعام والشراب، فإنه ليس في ذلك ما هو مراد لذاته، بل المراد دفع ألم الجوع والعطش، أو طلب لذة الأكل والشرب. وهذا حاصل بنوع الطعام والشراب، لا يتوقف على معين بخلاف ما هو مراد ومحبوب لذاته، فإنه لا يكون إلا معينا.