فصل
قال الله تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [سورة الذاريات:56]، وللناس في هذه العبادة التي خلقوا له قولان:
أحدهما: أنها وقعت منهم. ثم هؤلاء منهم من يقول: جميعهم خلقوا لها. ومنهم من يقول: إنما خلق لها بعضهم.
[ ص: 469 ]
والقول الثاني: أنهم كلهم خلقوا لها، ومع ذلك فلم تقع إلا من بعضهم. وهؤلاء حزبان:
حزب يقولون: إن الله لم يشأ إلا العبادة، لكنهم فعلوا ما لا يشاؤه بغير قدرته ولا مشيئته، وهم
القدرية المنكرون لعموم قدرته ومشيئته وخلقه.
والثاني يقولون: بل
كل ما وقع فهو بمشيئته وقدرته وخلقه، لكن هو لا يحب إلا العبادة التي خلقهم لها، ولا يأمر إلا بذلك، فمنهم من أعانه ففعل المأمور به، ومنهم من لم يفعله.
واللام عند هؤلاء كاللام في قوله:
ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون [سورة البقرة: 185]، وفي قوله:
ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين . [سورة الحج:34]
وقوله تعالى:
اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [سورة البقرة:21]، على قول الأكثرين، الذي يجعلون (لعل) متعلقة بقوله: (خلقكم) كما قال
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [سورة الذاريات:56].
[ ص: 470 ]
وقوله:
كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين [سورة الحج:37].
وقوله:
الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [سورة الطلاق : 12].
وقوله:
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم . [سورة المائدة:97]
وقوله:
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله . [سورة النساء:64]
ومنه قوله:
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون [سورة المائدة:6].
وقوله:
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [سورة النساء:26-28] ونحو ذلك مما فيه: أن الله يفعل فعلا لغاية يحبها ويرضاها، ويأمر بها عباده، وإذا حصلت لهم كان فيها نجاتهم وسعادتهم، ثم منهم من يعينه على فعلها، ومنهم من لا يفعلها، فإن هذا قد أشكل على طائفة من الناس، وقالوا: كيف يفعل فعلا لغاية مع علمه أنها لا تحصل؟.
[ ص: 471 ]
فيقال: الغاية التي يراد الفعل لها هي غاية مرادة للفاعل، ومراد الفاعل نوعان: فإنه تارة يفعل فعلا ليحصل بفعله مراده، فهذا لا يفعله، وهو يعلم أنه لا يكون. والله تعالى يفعل ما يريد، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولكن الله يفعل ما يريد.
وتارة يريد من غيره أن يفعل فعلا باختياره، لينتفع ذلك الفاعل بفعله، ويكون ذلك محبوبا للفاعل الأول، كمن يبني مسجدا ليصلي فيه الناس، ويعطيهم مالا ليحجوا به ويجاهدوا به، وسلاحا ليجاهدوا به، ويأمرهم بالمعروف ليفعلوه، وينهاهم عن المنكر ليتركوه، وهم إذا فعلوا ما أراد لهم ومنهم، كان صلاحا لهم، وكان ذلك محبوبا له، وإن لم يفعلوا ذلك، لم يكن صلاحا لهم ولا حصل محبوبه منهم. ثم هذا قد لا يكون قادرا على فعل ما أمروا به اختيارا.