ثم إذا علم أن كثيرا من هؤلاء لا يصلي ولا يحج ولا يجاهد، وأن من
[ ص: 473 ] يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لا يطيعه، لم يمنع ذلك أن يفعل ما يفعل، ويأمر بما يأمر به، لأن نفس ذلك الفعل وذلك الأمر مصلحة له، وهذا موجود في المخلوق والخالق، فإن المخلوق - كالرسول وغيره - يأمر وينهى، وإن كان يعلم أنه لا يطاع، لأن نفس أمره لهم، له فيه مصلحة ومنفعة وثواب، وفيه حكمة في حق المأمور والمنهي.
وكذلك يفعل ما يفعل لمصالح الناس، وإن علم أنهم لا يفعلون ذلك، إذا كان له في ذلك أجرا ومثوبة ومصالح أخرى، فإنه إذا كان بعض الناس يصلي في المسجد، وبعضهم لا يصلي فيه، قامت حجته على من لم يصل واستحق العقوبة، وكان قد أزاح عن نفسه العلة، بأن يقال: لم يبن لهم مسجدا يصلون فيه.
والخالق تعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأنذر العباد، وأزاح عللهم، وفعل لهم من الأسباب التي بها يتمكنون من الطاعة، أعظم مما يفعله كل آمر غيره بالمأمورين، فليس أحد أزاح علل المأمورين أعظم من الله، فلا تقوم حجة آمر على مأمور، إلا وحجة الله على عباده أقوم، ولا يستحق مأمور من آمره ذما وعقابا لمعصيته إلا واستحقاق عصاة الله لأمره أعظم استحقاقا وذما، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا ييسر أمر على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه، إلا والله تعالى أعظم تيسيرا على مأموريه وأعظم رفعا لما لا يطيقونه عنهم.
[ ص: 474 ]
وكل من تدبر الشرائع، لاسيما شريعة
محمد -صلى الله عليه وسلم-، وجد هذا فيها أظهر من الشمس. ولهذا قال في آية الصيام:
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [سورة البقرة:185].
وقال في آية الطهارة:
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم [سورة المائدة:6] .
وقال:
وما جعل عليكم في الدين من حرج [سورة الحج:78]. وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=662507« إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» .
وهو سبحانه يسقط الواجبات إذا خشي المريض زيادة في المرض أو تأخر البرء، فيسقط القيام في الصلاة، والصيام في شهره، والطهارة بالماء كذلك، بل المسافر مع تمكنه من الصيام أسقطه عنه في شهره، وقال:
ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [سورة البقرة:185] .
[ ص: 475 ]
والشريعة طافحة بهذا وأمثاله، وهو سبحانه مع ذلك هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، فلا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته، وهو سبحانه محسن متفضل إلى من أمرهم ونهاهم بقدر زائد لا يقدر عليه، ولا يفعله غيره، وهو أن جعلهم مؤمنين مسلمين مطيعين، وهذا لا يقدر عليه غيره من الآمرين الناهين، وهو في ذلك محسن إليهم منعم عليهم نعمة ثانية، غير نعمته بالإرسال والبيان والإنذار، فهذه نعمة يختصون بها غير النعمة المشتركة.
وأما الكفار فلم ينعم عليهم بمثل ما أنعم به على المؤمنين، ومن لم ينعم ويحسن بمثل ذلك، لم يكن قد أساء وظلم مع الإقدار والتمكين وإزاحة العلل، إذا كان له في ترك ذلك حكمة بالغة، لو فعل بهم مثلما فعل بالأولين، بطلت تلك الحكمة التي هي أعظم من طاعتهم، وحصلت مفسدة أعظم من مفسدة معصيتهم. فمن وجه ليس ذلك بواجب عليه لهم، ومن وجه له في ذلك حكمة بالغة لا تجتمع هي ومساواتهم بأولئك، فتقتضي الحكمة ترجيح خير الخيرين، بتفويت أدناهما، ودفع شر الشرين بالتزام أدناهما.