فإن قيل: كما يجوز أن يخطر له ما ذكرتم، يجوز أن يخطر له أن له خالقا أنعم عليه، وأنه غني عن شكره وجميع ما يتقرب به إليه. ويخاف من تكلف له ذلك أن يسخط عليه ويقول: من أنت حتى تقابلني بالشكر، وتعتقد أنه جزاء نعمتي؟ وما أصنع بشكر مثلك؟ ونحو ذلك. وفي هذا ما يمنعه من التزام شيء من جهة عقله).
[ ص: 54 ]
قال: (والجواب: أن
العاقل، مع اعترافه بحكمة خالقه، لا يتوهم أنه يسخط على من شكره وتذلل له وتضرع إليه، وإن كان غنيا عن ذلك؛ لأن الذي بعثه على الشكر ليس هو اعتقاد حاجة خالقه إلى الشكر، ولا أن شكره يقومن بإزاء النعمة عليه، فيمتنع، لعلمه بغناه عن ذلك. وإنما الباعث له حسن الشكر والتذلل. والتعظيم للمنعم من بدائه العقول. والحكيم لا يسخط ما هذا سبيله. فإذا قد أمن عاقبة الإقدام على الشكر، ولم يأمن عاقبة العقاب على تركه، فيجب في عقله توخي ذلك. وصار مثال ذلك أن يقال للعاقل: في الطريق مفسدون، يأخذون المال ويقتلون النفس، أو سباع تفترس الآدمي. ويقال له: أنت ما معك قليل نزر، والمفسدون قد استغنوا بما قد أخذوا، فلعلهم لا يعرضون لك أنفة من قلة مالك.
والسباع قد افترست جماعة فقد شبعوا، فلعلهم لا يعرضون لك. فإن في العقل يجب عليه التوقف عن سلوك ذلك الطريق لا الإقدام عليه، كذلك ها هنا).
قلت: مضمون ذلك أن العقل يوجب سلوك الأمن دون طريق الخوف.