قال: وليس لقائل أن يقول: إنه لو كان واجبا على كل من آمن بالله أن لا يصح إيمانه إلا من قبل وقوفه على هذه الأدلة،
[ ص: 70 ] لكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أحدا إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة، فإن العرب كلها كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى.
ولذلك قال تعالى:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [سورة لقمان: 25]، ولا يمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ به فدامة الطبع وبلادة القريحة إلى أن لا يفهم شيئا من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع للجمهور. وهذا فهو أقلي الوجود، فإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع.
قال: فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع.
قال: وأما
الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الباري تعالى لا يكون إلا بالعقل. لكن سلكوا في ذلك طرقا ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها ودعا الناس إلى الإيمان به من قبلها، وذلك أن طريقتهم المشهورة انبنت على بيان أن العالم محدث، وانبنى عندهم
[ ص: 71 ] حدوث العالم على القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث، وأن الأجسام محدثة بحدوثه. وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد -وبالجملة حدوث الأجسام- طريقة معتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلا عن الجمهور، ومع ذلك فهي غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري تعالى. وذلك أنه إذا فرضنا أن العالم محدث لزم -كما يقولون- أن يكون له -ولا بد- فاعل محدث، ولكن يعرض في وجود هذا المحدث شك، ليس في قوة صناعة الجدل الانفصال عنه، وذلك أن هذا المحدث لسنا نقدر أن نجعله أزليا ولا محدثا، أما كونه محدثا فلأنه يفتقر إلى محدث، وذلك المحدث إلى محدث، ويمر الأمر إلى غير نهاية، وذلك مستحيل.
وأما كونه أزليا فإنه يجب أن يكون فعله المتعلق بالمفعولات أزليا فتكون المفعولات أزلية، والحادث يجب أن يكون وجوده متعلقا بفعل حادث، اللهم إلا لو سلموا أنه يوجد فعل حادث عن فاعل قديم،
[ ص: 72 ] فإن المفعول لا بد أن يتعلق به الفاعل، وهم لا يسلمون ذلك، فإن من أصولهم أن المقارن للحادث حادث.
قلت: من أصولهم التي تلقوها عن
المعتزلة أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، وهذا متفق عليه بين العقلاء إلا إذا أريد به الحادث بالشخص، فإن ما لا يسبق الحادث المعين يجب أن يكون حادثا، وأما ما لا يسبق نوع الحادث فهو محل النزاع بين الناس وعليه ينبني هذا الدليل.