والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة، لما فيه من لبس الحق بالباطل، مع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثورا حصلت له الألفة، وما كان معروفا حصلت به المعرفة، كما يروى عن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك رحمه الله أنه قال: إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء.
فإذا لم يكن اللفظ منقولا ولا معناه معقولا ظهر الجفاء والأهواء، ولهذا تجد قوما كثيرين يحبون قوما ويبغضون قوما لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها، بل يوالون على إطلاقها أو يعادون، من غير أن تكون منقولة نقلا صحيحا عن النبي صلى
[ ص: 272 ] الله عليه وسلم، وسلف الأمة، ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها، ولا يعرفون لازمها ومقتضاها.
وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة، وجعلها مذاهب يدعى إليها، ويوالى ويعادى عليها.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته:
nindex.php?page=hadith&LINKID=843161«إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته، ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون.
ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان ـ وإن تنازعوا فيما تنازعوا فيه من الأحكام ـ فالعصمة بينهم ثابتة، وهم يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فبعضهم يصيب الحق فيعظم الله أجره ويرفع درجته، وبعضهم يخطئ بعد اجتهاده في طلب الحق، فيغفر الله له خطأه، تحقيقا لقوله تعالى:
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [البقرة: 286] سواء كان خطؤهم في حكم علمي أو حكم خبري نظري، كتنازعهم في
الميت هل يعذب ببكاء أهله عليه؟ وهل يسمع الميت قرع نعالهم؟ وهل رأى محمد ربه؟ [ ص: 273 ] وأبلغ من ذلك أن
شريحا أنكر قراءة من قرأ:
بل عجبت ويسخرون [الصافات: 12] وقال: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي، فقال: إنما
شريح شاعر يعجبه علمه، كان
عبد الله أعلم منه أو قال: أفقه منه ـ وكان يقرأ: (بل عجبت) فأنكر على
شريح إنكاره، مع أن
شريحا من أعظم الناس قدرا عند المسلمين، ونظائر هذا متعددة.
والأقوال إذا حكيت عن قائلها أو نسبت الطوائف إلى متبوعها فإنما ذاك على سبيل التعريف والبيان، وأما المدح والذم والموالاة والمعاداة فعلى الأسماء المذكورة في القرآن العزيز، كاسم المسلم والكافر، والمؤمن والمنافق، والبر والفاجر، والصادق والكاذب، والمصلح والمفسد، وأمثال ذلك، وكون القول صوابا أو خطأ يعرف بالأدلة الدالة على ذلك المعلومة بالعقل والسمع، والأدلة الدالة على العلم لا تتناقض كما تقدم.