ثم قرر الأصل الثاني وهو المهم.
قال: (وإنما
قلنا: إن ما لم يسبق المحدث محدث؛ لأن ما لم يسبق المحدث إن كان موجودا فإنه لم يوجد قبله، ووجد بعده أو معه، فإذا: لم يكن موجودا فصار موجودا، وهذه حقيقة المحدث، فصح أن الجسم محدث).
قال: (فإن قيل: ما أنكرتم أن الحوادث الماضية لا أول لها، ولا يلزم حدث الجسم إذا لم يتقدمها؟ قيل: إذا كان كل واحد من الحوادث له أول، استحال ألا يكون لجميعها أول؛ لأنها ليست سوى آحادها، كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج أسود، ولا يكونوا كلهم سودا،
[ ص: 138 ] ولأن كل واحد قد سبقه عدمه، فلو كانت لا أول لها، لكان ما مضى ما انفك من وجودها ولا من عدمها، ولا ينفصل السابق من المسبوق).
قلت: هذه المقدمة هي التي نازعهم فيها المنازعون كما تقدم ذكر بعض طعن الطاعنين فيها، في كلام
الرازي وغيره. وهؤلاء يقولون: لا نسلم أنه إذا كان لكل واحد منها أول، أن يكون لجميعها أول، كما أن كل واحد منها له آخر، وليس لجميعها آخر.
وكما أن كل واحد من العشرة عشر، وليس المجموع عشرا، وكل واحد من أعضاء الإنسان عضو، وليس المجموع عضوا، وبالجملة فليس كل ما يتصف به كل فرد من الأفراد يتصف به المجموع في جميع المواضع، بل تارة يتصف المجموع بما يتصف به الأفراد، كما أنه إذا كان كل جزء من الجملة موجودا فالجميع موجود، وإن كان كل جزء من المجموع ممكنا فالمجموع ممكن، وإذا كان كل جزء منها معدوما، فالجميع معدوم، وتارة لا يكون كذلك كما تقدم.
فلا بد من بيان أن مورد النزاع من أحد الصنفين، وإلا فدعوى ذلك هو أول المسألة، فدعوى ذلك مصادرة. وتمثيلهم بالزنج تمثيل بأمر جزئي يحصل به المقصود، إلا أن يعلم أن هذا مثل هذا.
[ ص: 139 ]
ولهم عنه أجوبة: المنع، والمعارضة، والفرق. أما المنع: فيقولون: لا نسلم أن هذا مثل الزنج. وأما المعارضة: فيعارضون ذلك بعلمنا بأن كل حركة لها آخر، وكل حادث له آخر، وليس لكل الحركات والحوادث آخر، وأن كل عدد له نهاية، وليس للأعداد نهاية، وأن كل واحدة من الأخوات يباح التزويج بها، وليس الجمع بين الأخوات مباحا، وكل واحد من أفراد العشرة واحد، وهو ثلث الثلاثة، وربع الأربعة، وليست العشرة ثلث الثلاثة، ولا ربع الأربعة، وأن كل واحد من أجزاء المركب هو مفرد بشرط المركب، ليس مفردا بسيطا، وأن كل واحد من أجزاء الدائرة جزء دائرة، والدائرة ليست جزء دائرة، وأن كل واحد من أجزاء المطر قطرة، وليس المجموع قطرة، فإنه يفرق بين ما له مجموع يمكن أن يوصف بما وصفت به الأفراد، وبين ما ليس له مجموع يمكن وصفه بذلك.
ولا ريب أنا إذا عرضنا على عقولنا أن كل حركة مسبوقة بأخرى، لزم أن يكون لكل حركة أول، ولا يلزم أن يكون لجنس الحركات أول، كما إذا عرضنا على عقولنا أن كل حركة ملحوقة بأخرى.
ولا ريب أنا إذا عرضنا على عقولنا أن كل زنجي فهو أسود، فإنا نعلم بالضرورة أن مجموع الزنج سود، وذلك لأن المجموع غير كل واحد واحد من الأفراد. فتارة يمكن وصفه بصفات الأفراد، كما نقول عن الحوادث المحدودة الطرفين: إن مجموعها حادث، كما أن كل واحد منها حادث.
[ ص: 140 ] وتارة لا يمكن وصفه بذلك اللفظ، بل بصيغة الجمع، فإن مجموع السودان لا يقال فيه بنفس اللفظ: أسود، ولا يقال، غير أسود، بل يقال: سود. وسود صيغة جمع، فهي بمعنى قولنا: كل زنجي أسود.
وإذا لم يكن الحكم على المجموع هو بلفظه الحكم على الأفراد، كان نظير مثال الزنج. وأما إذا اتحد الحكم فقد يكون حكم المجموع فيه حكم الأفراد، وقد لا يكون. فالأول إذا قلنا: كل محدث فهو مخلوق أو فهو ممكن، أو: كل ممكن فهو مفتقر إلى غير ممكن، فإن ذلك يوجب أن يكون مجموع المحدث مخلوقا وممكنا، ومجموع الممكن مفتقرا إلى غير ممكن؛ لأن هذا الحكم ثابت للجنس من حيث هو هو، فيلزم ثبوته حيث تحقق الجنس، والجنس يتحقق في المجموع، كتحققه في كل فرد فرد.
فطبيعة المحدث تستلزم كونه مخلوقا ممكنا، وطبيعة الممكن إذا وجد تستلزم الافتقار إلى غير ممكن، والطبيعة لازمة للمجموع، فيستحيل وجود الطبيعة منفكة عن لازمها، فلا يكون مجموع الممكنات إلا مفتقرا إلى غيره، كما لا يكون كل فرد منها إلا مفتقرا إلى غيره، ولا يكون مجموع المخلوقات إلا حادثة وممكنة، كما لا يكون كل منها إلا حادثا ممكنا كذلك في المعنى.
لكن من المجموع ما يكون اللفظ يتناول جنسه، كما يتناول الواحد
[ ص: 141 ] منه، كلفظ المخلوق والمحدث والممكن، ومنه ما يكون لفظ الكثير فيه صيغة جمع لا يستعمل في الواحد منه.
والزنج ليس لهم مجموع يحكم عليه بأنه أسود أو ليس بأسود، بل يقال: مجموعهم سود وذلك معنى قولك: كل واحد منهم أسود، ولكنه الأسود يتصف به المجموع من حيث هو مجموع، كما يتصف به كل واحد واحد. بخلاف اتصاف المجموع بكونه محدثا وممكنا ومفتقرا إلى غيره، فإن هذا الوصف يمكن ثبوته للمجموع من حيث هو مجموع، كما يثبت لكل فرد من أفراده.
والحوادث إذا حكم على مجموعها بأن له أول ليس له أول، فهو حكم على الجنس المجموع، فإن علم أن الجنس الحادث لا يكون دائما متصلا، بل لا يكون إلا بعد عدم، كما علم أن كل فرد فرد من أفراده كذلك، كان هذا نظير المحدث والممكن، لكن النزاع في هذا، فإنا إذا عرضنا على العقل المحدث عن عدم من حيث هو، مع قطع النظر عن أفراده ومجموعه: هل يكون مخلوقا ممكنا؟ جزم العقل بأن ما كان مخلوقا محدثا، فإن كونه محدثا، يستلزم كونه ممكنا؛ إذ لو لم يكن كذلك لزم كونه واجبا فلا يعدم، أو ممتنعا فلا يوجد.
والمحدث كان معدوما وصار موجودا، فطبيعته تنافي الوجوب والامتناع، لا فرق في ذلك بين الواحد والجنس.