والأمور المقدارية والعددية، كالكرات، والدوائر، والخطوط، والمثلثات، والمربعات، والألوف، والمئات، كلها يثبت لأجزائها من الحكم ما لا يثبت لمجموعها. وبالعكس فإذا وصف الشيء بأنه دائم، أو طويل، أو ممتد، لم يلزم أن يكون كل واحد من أجزائه أو أفراده كذلك.
قال تعالى في الجنة:
أكلها دائم وظلها [سورة الرعد: 35].
ومعلوم أن كل جزء من أجزاء الأكل والظل يفنى وينقضي، والجنس دائم لا يفنى ولا ينقضي، ولا توصف الأجزاء بما وصف به الكل.
[ ص: 152 ]
قال تعالى:
إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [سورة ص: 54]، فأخبر عن الجنس أنه لا ينفد، وأن كل واحد من أجزائه ينفد.
ويقال للزمان والحركات في الأجسام: إنها طويلة ممتدة، ولا يقال للصغير من أجزائها: إنه طويل ممتد، فيكون الرب لم يزل متكلما إذا شاء، أولم يزل فاعلا لما يشاء هو، بمعنى كونه لم يزل متكلما فعالا، وبمعنى دوام كلامه وفعاله، لا يستلزم أن كل واحد من الأفعال دائم لم يزل.
فإن قلتم: الحادث من حيث هو حادث يقتضي أنه مسبوق بغيره، كما أن الممكن من حيث هو ممكن يقتضي الافتقار إلى غيره، والمحدث هو من حيث هو محدث يقتضي الاحتياج إلى غيره، فكما أن الممكنات -مفردها ومجموعها- يلزم أن تكون مفتقرة إلى الفاعل، وكذلك المحدثات، فكذلك الحوادث -مفردها ومجموعها- يقتضي أن تكون مسبوقة بالغير.
وهذا من جنس قولهم: الحركة من حيث هي تقتضي كونها مسبوقة بالغير؛ لأن أجزاءها متعاقبة لا مجتمعة.
قال لكم منازعوكم: هذا لفظ مجمل مشتبه. وعامة حججكم وحجج غيركم الباطلة مبناها على ألفاظ مجملة متشابهة، مع إلغاء الفارق، ويأخذون اللفظ المجمل المشتبه من غير تمييز لأحد معنييه عن الآخر. فبالاشتراك والاشتباه في الألفاظ والمعاني ضل كثير من الناس.
[ ص: 153 ]
وذلك أن قولهم: الحادث -من حيث هو- يقتضي أنه مسبوق بغيره، أو الحركة -من حيث هي- تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير.
يقال لكم: الحادث المطلق لا وجود له إلا في الذهن لا في الخارج، وإنما في الخارج موجودات متعاقبة، ليس مجتمعة في وقت واحد، كما تجتمع الممكنات والمحدثات المحدودة، والموجودات والمعدومات، فليس في الخارج إلا حادث بعد حادث، فالحكم إما على كل فرد فرد، وإما على كل جملة محصورة، وإما على الجنس الدائم المتعاقب.
فيقال لكم: أتريدون بذلك أن كل حادث فلا بد أن يكون مسبوقا بغيره، أو أن الحوادث المحدودة لا بد أن تكون مسبوقة، أو أن الجنس لا بد أن يكون مسبوقا؟
أما الأول والثاني فلا نزاع فيهما. وأما الثالث فيقال: أتريدون به أن الجنس مسبوق بعدمه، أم مسبوق بفاعله، بمعنى أنه لا بد من محدث؟ الثاني مسلم، والأول محل النزاع.
وكذلك في الحركة: إن قلتم: إن الحركة المعينة مسبوقة بأخرى أو بعدم، فهذا لا نزاع فيه. وإن قلتم: إن نوعها مسبوق بالعدم، فهذا محل النزاع.
وذلك أن من أعظم ما اعتمدوا عليه قولهم: الحركة من حيث هي حركة تتضمن المسبوقة بالغير، فإن الحركة تحول من حال إلى حال، فإحدى الحالتين سابقة للحال الأخرى، فلا تعقل حركة إلا مع سبق البعض على البعض، وكل ما كان مسبوقا بغيره لم يكن أزليا. فالحركة
[ ص: 154 ] يمتنع أن تكون أزلية. فيقال لهم: قولكم: الحركة تستلزم المسبوقية بالغير، أتريدون بالغير سبق بعض أجزائها على بعض، وهو المعنى الذي دللتم عليه؟ أم تريدون أنها مسبوقة بالعدم، أم مسبوقة بالفاعل؟
أما الأول، وهو الذي دللتم عليه، فإنه يقتضي نقيض قولكم، وهو يقتضي أن الحركة لم يزل نوعها موجودا؛ لأن كل ما هو حركة مسبوق بما هو حركة، وكل حال تحول إليه المتحرك فهو مسبوق بحال أخرى، وتلك الحال مسبوقة بأخرى، فكان ما ذكرتموه دليلا على حدوث الحركة، كما أنه يدل على حدوث أعيان الحركة وأجزائها، فهو يدل على دوام نوعها، وهو نقيض قولكم.
فكان ما ذكرتموه حجة في محل النزاع إنما يدل على مواقع الإجماع، وهو في محل النزاع حجة عليكم لا لكم. وحينئذ فيقول المنازع: نحن نقول بموجب دليلكم، وهو حجة عليكم. وإن أردتم أن مسمى الحركة مسبوق بالعدم، فلم تذكروا على هذا دليلا أصلا، وهو مورد النزاع.
وإن أردتم أنه مسبوق بالفاعل، فهذا أيضا يراد به أن كل جزء منها مسبوق بالفاعل. ويراد به أن جنسها سبقه الفاعل سبقا انفصاليا، وإن لم يقيموا دليلا على هذا، فكان ما ذهبتم إليه لم تقيموا دليلا عليه، وما أقمتم عليه دليلا لا يدل على قولكم بل على نقيضه.
ولذلك يقال لخصومهم الفلاسفة: أنتم لم تقيموا دليلا على قدم شيء من العالم، بل عامة ما أقمتموه من الأدلة يستلزم دوام الفاعلية، وهذا يدل على نقيض قولكم، فإنه يقتضي أنه لم يزل يفعل، والمفعول لا يكون إلا ما حدث عن عدمه.
[ ص: 155 ]